المؤثرون: أصوات للناس أم واجهات للسلطة؟

قبل عشر سنوات، كان يُنظر إلى المؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي على أنهم هواة، يملؤون أوقات فراغهم بمقاطع عفوية للضحك أو الترفيه. لكن الزمن تغيّر.
اليوم، بعض هؤلاء المؤثرين يملكون جمهورًا يتجاوز عدد متابعي قنوات تلفزيونية كبرى، وصوتهم يصل إلى ملايين الناس بسرعة تفوق أي بيان رسمي.
هذه القوة الجديدة جعلت الحكومات والمؤسسات والشركات تتوقف أمام سؤال جدي: كيف نتعامل مع هؤلاء؟ هل نفتح معهم قنوات تواصل طبيعية؟ أم ندفعهم إلى الواجهة ليكونوا أذرعًا إعلامية؟ أم نحتويهم بالترهيب أو الإغراء حتى يبقوا تحت السيطرة؟
بريطانيا: شراكة منظمة بلا تصدير سياسي
في بريطانيا، التجربة واضحة. خلال جائحة كورونا مثلًا، استعانت الحكومة بعدد من صناع المحتوى لإيصال رسائل التوعية الصحية. لكن اللافت أن هؤلاء ظلوا شركاء في حملات توعوية محددة، بينما بقي الوزراء والأطباء هم المتحدثين الرسميين. هنا يظهر الفارق: المؤثر قناة مساعدة للوصول إلى الناس، وليس بديلًا عن صاحب القرار.
هناك أيضًا ضوابط صارمة تضمن الشفافية. هيئة معايير الإعلان تشترط الإفصاح الواضح إذا كان المحتوى مدفوعًا أو مرتبطًا بهدية، وهيئة السلوك المالي تضع قواعد دقيقة لأي مؤثر يروج لمنتجات مالية. النتيجة أن العلاقة بين المؤثر والمؤسسة مبنية على وضوح وتنظيم، وليس على التلميع أو التصدير المبالغ فيه.
الإغراء والاحتواء في بعض الدول العربية
في دول عربية معروفة، وُضع إطار قانوني للمؤثرين عبر تراخيص ورسوم، ما أعطى انطباعًا بالاحترافية. لكن في الواقع، ما يجري خلف الكواليس مختلف: دعوات إلى رحلات فاخرة، هدايا باهظة الثمن، وأحيانًا عقوبات غير معلنة إذا خرج أحدهم عن الخط المرسوم. من يقبل يُفتح أمامه المجال، ومن يرفض قد يُقصى أو يُضيَّق عليه.
هنا نرى وجهين متناقضين: من جهة، محاولة تنظيم السوق وضبط المحتوى، ومن جهة أخرى، احتواء يُفقد المؤثر استقلاليته، فيتحول إلى صوت رسمي غير مباشر.
سياسة التخويف في دول أخرى
في بعض البلدان، العلاقة أبسط لكنها أشد قسوة. لا تراخيص ولا هدايا. فقط قوانين فضفاضة تُبقي المؤثر في دائرة الخطر الدائم. يكفي أن يكتب تغريدة ناقدة أو ينشر فيديو غير مرضٍ للسلطة، حتى يجد نفسه في مواجهة عقوبة أو استدعاء. هنا، لا حاجة للإغراء؛ الخوف وحده كافٍ لإخماد أي صوت مستقل.
حين يُستَخدم المؤثر كواجهة
قد يتصور البعض أن تصدير المؤثرين للواجهة هدفه الترويج للرواية الرسمية فقط. لكن هناك أسباب أخرى لا تقل خطورة. أحيانًا يفضل المسؤول الاختباء وراء وجوه لامعة بدل مواجهة الناس مباشرة. وأحيانًا يكون المنظمون تجاريين أكثر من اللازم، فيبحثون عن أسماء تجذب الجمهور على حساب جودة النقاش.
وهكذا تتحول بعض المؤتمرات والندوات إلى عروض استعراضية، يغيب عنها العمق وتبقى فقط صور المؤثرين التي تُتداول بكثرة.
المشكلة في جوهرها
- تضخيم المؤثر ليصبح بديلاً عن صاحب القرار.
- تحويل الإنسان إلى سلعة والجمهور إلى مجرد أرقام في تقارير التفاعل.
- تراجع المضمون حين يصبح الهمّ الأكبر هو عدد المشاهدات والمتابعين.
ما الذي نحتاجه؟
- تواصل طبيعي وشفاف: من حق المؤسسات أن تتعاون مع المؤثرين، لكن بشروط واضحة، مع الإفصاح عن أي مقابل مادي أو دعم.
- توازن بين الشكل والمضمون: جذب الجمهور مهم، لكن ليس على حساب الرسالة أو الفكرة الجوهرية.
- احترام الاستقلالية: المؤثر ليس موظفًا عند الحكومة أو المؤسسة، بل هو شخص له جمهوره ورأيه.
- رفض الاحتواء بالترغيب أو الترهيب: الحرية هي الضمانة الأساسية لأن يبقى المحتوى صادقًا وقريبًا من الناس.
كلمة أخيرة
المؤثرون اليوم ليسوا مجرد شباب على الهواتف، بل أصبحوا قوة حقيقية في تشكيل الوعي العام. لكن السؤال الأهم يبقى: هل ستظل هذه القوة في خدمة المجتمع، أم تتحول إلى وسيلة للتسليع أو أداة للقمع؟
الجواب مرهون بقدرتنا، كمؤسسات وكجمهور، على التعامل مع المؤثرين بوعي. فالمسألة لا تتعلق بعدد المتابعين فقط، بل بالقيمة التي يضيفها هذا الصوت إلى حياة الناس.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇