الضّمير الّذي ينام عن غزّة

تغفل عن غزّة شهرًا كاملًا، فبأيّ قلبٍ تضع رأسك على وسادتك؟ وبأيّ وجهٍ تجرؤ على أن تواجه نفسك؟ كيف يستطيع الإنسان أن يواصل حياته اليوميّة وكأنّ شيئًا لم يكن، مع أنه ثمّة أمّهات يسلّمن أبناءهنّ للفجر الأخير، وبيوت تُهدم على ساكنيها، وطفولة تُدفن قبل أن تتذوّق براءة الحياة؟!
الغياب الموحش
ما كان الغياب عن غزّة مجرّد غيابٍ عن أخبارٍ تُنقل في نشراتٍ أو صورٍ تتداولها الشّاشات. إنّه غيابٌ عن إنسانيّتك أنت، عن جوهرك الأعمق الّذي يفترض أن ينهض مع كلّ صرخةٍ، ويقشعرّ مع كلّ صوت أمٍّ.
أن تغفل عن غزّة شهرًا هو أن تنسى أنّك كائنٌ خُلق ليشعر بآلام الآخرين، لا ليعتادها.
هو أن تسمح لذاتك أن تتخشّب، أن تتكلّس، أن تتحوّل إلى جلمودٍ أجوف لا تلامسه الدّماء ولا توقظه العيون الدّامعة.
معيار الضّمير العالميّ
غزّة اليوم مدينةٌ فلسطينيّةٌ صارت معيارًا عالميًّا لاختبار الضّمير الإنساني.
كلّ خطابٍ عن حقوق الإنسان، وكلّ شعارات العدالة والمساواة، تُقاس أمام المأساة الغزّيّة. هناك ينكشف زيف الادّعاءات، حيث تتقاطع السّياسة بالمأساة، وحيث تُختبر صدقيّة الشّعارات في مواجهة الحقائق الموجعة.
فالصّمت مشاركةٌ في الجريمة، والغياب ليس ضعفًا، بل اختيارٌ واعٍ لإقصاء الألم من الحسابات.
الجرح الّذي يفضح الجميع
إنّ مشهد طفلٍ يُسحب من تحت الرّكام هو مرآة تضع كلّ إنسان أمام ذاته، وحين يتجاهل أحدهم هذا المشهد، فهو لا يتجاهل طفلًا غريبًا، بل يدفن في داخله آخر ما تبقّى من القدرة على التّعاطف.
غزّة بهذا المعنى ليست جرحًا فلسطينيًّا فقط، بل هي جرحٌ كونيٌّ، يعرّي هشاشة ضمائرنا حين تستسلم للتّعوّد.
القسوة المتكلّسة
الضّمير الّذي ينام شهرًا عن غزّة هو ضميرٌ فقد حرارته، قسا حتّى تحوّل إلى صخرةٍ عمياء.
كان في الأصل نداءً حيًّا يهزّ الكيان، ثمّ تحوّل شيئًا فشيئًا إلى صدىً أجوف يتردّد في فراغ الأرواح. إنّها مأساةٌ أخلاقيّةٌ حين يصبح الألم خبرًا يُستهلك، ويُبتلع كوجبةٍ باردةٍ على موائد الأخبار، دون أن يترك في القلب رعشةً أو في العين دمعةً.
الأمومة المصلوبة على بوّابات الفقدان
كيف يمكن لضميرٍ أن يسكت أمام أمّهاتٍ يسلّمن أبناءهنّ للفجر الأخير؟ تلك الأمّ التي تُقبّل جبين طفلها المسجّى، لا تفعل ذلك وحدها؛ إنّها تضع العالم كلّه في قفص الاتّهام. صمتُنا خيانةٌ، وغفلتُنا جريمةٌ موازيةٌ للرّصاص. فالدّموع الّتي تُسكب هناك لا تحتاج إلى تفسيرٍ سياسيٍّ، بل إلى قلبٍ لم يصدأ بعد.
ما بين العاديّ والكارثة
جزءٌ من المأساة أنّ العالم تعلّم أن يتعامل مع الكارثة كأنّها مشهدٌ طبيعيٌّ يتكرّر.
يمضي بعض الناس في حياته، فيذهب إلى عمله، ويحتفل بمناسباته، ويتابع مسلسلاته، في وقت يختنق فيه طفلٌ آخر تحت غبار الرّكام.
هذه الازدواجيّة تقتل فينا ببطءٍ أكثر ممّا تقتلهم القذائف: إنّها تقتل إنسانيّتنا. فهل يجوز للإنسان أن يتصالح مع الظّلم حتّى يصير مألوفًا، وكأنّ الدّماء ليست سوى تفصيلٍ في عالمٍ مزدحم؟
الضّمير بوصفه قوّةٍ محرِّكةٍ
الضّمير ليس رفاهيّةً أخلاقيّةً، ولا زينةً لغويّةً نرفعها في المناسبات، إنّه المحرّك الّذي يمنح حياتنا معنى. وما لم ينهض هذا الضّمير أمام المأساة، فلن ينهض أمام أيّ شيء. وحين يخفت صوته، يصبح الإنسان أقرب إلى آلةٍ تتحرّك بلا روحٍ، تخضع للرّوتين والاستهلاك والتّبرير المستمرّ.
مواجهة الذات
السّؤال الحقيقيّ ليس: ماذا يحدث في غزّة؟ بل: ماذا يحدث في داخلك حين يحدث كلّ هذا في غزّة؟ هل تبقى متفرّجًا يراقب الصّور ببرودٍ، أم تسمح للجرح أن يخلخل استقرارك ويهزّ وجدانك؟ مواجهة الذات هنا هي الاختبار الأصعب: أن تعترف أنّك ضعفت، وأنّك قصّرت، وأنّك سمحت للتعوّد أن يخنق إحساسك. لكنّ هذا الاعتراف ليس هزيمة، إنّما بداية لاستعادة الضّمير من سباته.
الخاتمة: غزّة مرآة الأرواح
غزّة اليوم ليست مجرّد قضيّةٍ سياسيّةٍ أو ملفًّا إنسانيًّا، بل هي حقيقةٌ كبرى تُعرّي القلوب. من ينام عن غزّة ينام عن إنسانيّته، ومن يتجاهلها يدفن آخر ما تبقّى فيه من حياة. إنّها صرخةٌ تقول لنا: لا جدوى من كلّ ما تملكون إن لم يكن قلبكم مع من يُسحقون ظلمًا. فلتكن غزّة يقظة الضّمائر الّتي ترفض أن تتحجّر، وتبقى قادرةً على الارتجاف أمام الألم، وعلى النّهوض بالفعل والكلمة في وجه القسوة.
اقرأ أيضًا:
- لا لتضخيم مظاهرات اليمين المتطرف.. نعم لمواجهتها بثقة
- زيارة الرئيس هرتسوغ إلى بريطانيا يجب أن تقوده إلى لاهاي
- أصحاب الإرادة… نعمة تضيء حياتك وسط العتمة
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇