الصّحبة الصّالحة في المهجّر

الهجرة في جوهرها انتقال الرّوح من عالمٍ ألفَته إلى فضاءٍ جديدٍ لا تعرفه.
في المهجّر، يغدو الإنسان غريباً، عن الأرض وتفاصيله الّتي تركها خلفه: جيرانه، أزقّة مدينته، ضحكات أصدقائه، وحتّى رائحة الخبز من تنانير حارته.
وهنا يظهر ثقل الغربة على القلب، فيبحث المرء عمّا يخفّف غربته ويمنحه شيئاً من الأنس والدّفء، ومن أعظم ما يُعينه على ذلك الصّحبة الصّالحة، تلك النّعمة الّتي قد تكون أثمن من المال والجاه إذا وُجدت في المنفى.
الغربة والفراغ الرّوحيّ
في المهجّر، يعيش الكثيرون صراعاً داخليّاً بين التمسّك بالجذور والانجراف مع التّيارات الجديدة.
قد يجد الإنسان نفسه محاطاً بثقافاتٍ غريبةٍ، وعاداتٍ لا تشبه عاداته، وأفكارٍ قد تُغريه أو تُربكه، وهنا يأتي دور الصّحبة الصّالحة الّتي تملأ هذا الفراغ الرّوحيّ، وتكون كصلة وصلٍ بين الماضي والحاضر، بين الوطن الّذي تركه، والواقع الّذي يعيشه.
الإنسان في الغربة أحوج ما يكون إلى رفيقٍ يُذكّره بالله حين ينسى، ويثبّت قلبه حين يضعف، ويمنحه الأمان حين تتقاذفه عواصف الوحدة؛ فالغربة ليست في بعد المسافات، إنّما في بعد النّفوس عن الطّمأنينة.
أثر الصّحبة الصّالحة على الفرد
الصّحبة الصّالحة في المهجّر هي الدّرع الواقية للإنسان؛ فهي تقيه من الانخراط في عاداتٍ لا تنسجم مع قيمه، وتُبقيه حاضر القلب في العبادة والذكر.
قد يكون صديقٌ واحدٌ صادقٌ، خيراً من مئة معرفةٍ عابرةٍ، لأنّ الأوّل يشدّك إلى المعالي، بينما الأخرى قد تتركك هائماً بلا سند.
لقد قال النّبي ﷺ: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل”. وهذه الحكمة تزداد وضوحاً في المهجّر، حيث يضعف الانتماء وتقلّ الضّوابط الاجتماعيّة الّتي كانت تردع الإنسان في وطنه.
الصّديق الصّالح هنا يُظهر لك عيوبك، ويكون مثل بلسمٍ يخفّف عنك أوجاعك، ووسيلةً تربطك بدينك وأصلك.
الصّحبة الصّالحة والأسرة في المهّجر
ليس الأفراد وحدهم من يحتاجون إلى الصّحبة الصّالحة، فالعائلات أيضاً تحتاج إلى ذلك؛ فالأب الّذي يجد في المهجّر أسراً صالحةً قريبةً، يشعر أنّ أبناءه ليسوا غرباء تماماً. والأمّ الّتي تجلس مع أخواتٍ صالحاتٍ، يهون عليها بعد الأهل.
أمّا الأبناء، فوجود أصدقاء صالحين لهم قد يكون حصناً يحميهم من الذوبان في مجتمعاتٍ جديدةٍ لا تراعي دائماً هُويّتهم.
الصّحبة الصّالحة تعطي للأبناء قدوةً حسنةً، وتساعدهم على التّمسّك بلغتهم ودينهم وعاداتهم، فلا يصبحون مجرّد امتدادٍ لثقافةٍ غريبةٍ، بل يحافظون على هُويّتهم ويضيفون إليها ما هو نافع.
الصّحبة الصّالحة كبديلٍ عن الوطن
حين نفقد الوطن، لا نجد بديلاً كاملاً له، لكّننا نجد أشباهه في ملامح بسيطةٍ: جلسةٌ ودّيةٌ حول مائدةٍ، ضحكةٌ مشتركةٌ، أو دعاءٌ جماعيٌّ في مسجدٍ صغيرٍ.
الصّحبة الصّالحة في المهجّر تُشعرك أنّك ما زلت تملك شيئاً يشبه الوطن، ولو في الرّوح لا في الأرض.
إنّهم أشخاص يجعلون الغربة أكثر احتمالاً، ويمنحونك يقيناً أنّ الوطن لا يُقاس فقط بالمساحة الجغرافيّة، إنّما بالقلوب الّتي تُشعرك بالأمان.
التّحديّات الّتي تواجه الصّحبة الصّالحة في المهجّر
قد يقول قائلٌ: العثور على الصّحبة الصّالحة في المهجّر أمرٌ صعبٌ، وهذا صحيحٌ إلى حدٍّ ما، لأنّ الغربة تجمع مختلف النّفوس، وتكشف معادن النّاس، لكنّ الصّعوبة لا تعني الاستحالة.
على المرء أن يسعى، وأن يختار بوعيٍ؛ فكما أنّ الغربة فرصةٌ لاكتساب خبراتٍ جديدةٍ، فهي أيضاً اختبارٌ لقدرتنا على التّمييز بين الصّالح والطّالح.
الصّحبة الصّالحة قد لا تأتي بسهولةٍ، لكن حين يجدها المرء، عليه أن يحافظ عليها كما يحافظ على أثمن كنوزه؛ فالقلوب الّتي تذكّرك بالله وتشدّك إلى الخير لا تُعوَّض.
قيمة الصّحبة الصّالحة في الميزان الإنسانيّ والإيمانيّ
إنّ أعظم ما يتركه الصّديق الصّالح في حياة أخيه أثرٌ ممتدٌّ بعد اللّقاء.
الصّحبة الصّالحة تُنتج ذكرياتٍ نقيّةً تُضيء القلب، وتبني روابط تتجاوز حدود المكان والزمان.
في الدّين، هي عبادةٌ خفيّةٌ، لأنّك بإعانتك لصديقك تُحيي سنّة التّعاون على البرّ والتّقوى. وفي الجانب الإنسانيّ، هي مدرسةٌ في الوفاء والإخلاص.
في المهّجر، يتضاعف ثقل الوحدة ويكبر فراغ الرّوح، لكنّ وجود الصّحبة الصّالحة يخفّف من كلّ ذلك؛ فهي وطنٌ صغيرٌ نحمله معنا، وسندٌ في الطّريق، وأمانٌ في وجه العواصف.
إنّها الدّواء الّذي يعيد للغريب شيئاً من توازنه، والنّبع الّذي يُرويه حين يظمأ قلبه في صحراء الغربة.
فمن وجد في غربته صحبةّ صالحةً، فليحمد الله على هذه النّعمة العظيمة، ولْيحافظ عليها ما استطاع، فهي زادُه في الدّنيا، وذخره في الآخرة.
اقرأ أيضًا:
- ماذا نسمي المولود: أحمد الشرع؟ أم نعم لحافظ الأسد؟ أم وفق ماذا؟
- غرس العروبة في قلوب الصغار وحفظ الذاكرة الفلسطينية
- الضّمير الّذي ينام عن غزّة
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇