الشّعور بالذنب واستدراك الموقف
الهجرة نزيفٌ صامتٌ في أرواح من اقتُلِعت جذورهم من أرضهم.
في المنافي، يتوه الحنين بين مطاراتٍ باردةٍ وطرقاتٍ مجهولةٍ، ويتحوّل الشّعور بالذنب إلى جرحٍ متوارٍ تحت الجلد.
جرحٌ لا يراه أحدٌ، لكنّه ينهش الدّاخل بهدوءٍ… كلّ ليلةٍ، وكلّ صباحٍ، مع كلّ كلمةٍ ينطقها الأبناء بلغةٍ ليست لغتنا، ومع كلّ ملامح صغيرةٍ للوطن تبدأ بالتّلاشي من الذاكرة.
الذنب في المهجّر ارتجاج الرّوح أمام سؤالٍ وجوديٍّ: “هل كنتُ السّبب في تمزيق أحلام أبنائي؟ هل حميتُهم حين اخترتُ البُعد، أم سلّمتُهم للضّياع؟”.
الأمّهات والآباء في الغربة يعرفون هذا الشّعور جيّدًا؛ يبتسمون حين ينجح أبناؤهم، لكنْ في أعماقهم ندمٌ خفيّ بأنّ النّجاح جاء ملوَّثًا بالحرمان من حضن الجدّات ورائحة البيوت القديمة وأمان الأزقّة الّتي كانت تحفظ وجوه الجيران.
إنّ فلسفة الذّنب هنا معقّدةٌ؛ فهو إدراكٌ عميقٌ بأنّ المهجر سرق من الأبناء ما لا يُعوَّض: لغة الطّفولة، وذاكرة الوطن، وإحساس الانتماء، وحتّى ملامح الدّفء في اللّيل البعيد. ومع ذلك، فإنّ هذا الذنب لا ينبغي أن يتحوّل إلى لعنةٍ مدمّرةٍ، بل إلى بوصلةٍ للاستدراك.
الاستدراك في المهجر إعادة تشكيل للحاضر.
أن يحوّل الأهل غربتهم إلى درسٍ في القوّة والصّبر، أن يغرسوا في قلوب أبنائهم أوطانًا من القيم والذاكرة واللّغة، أن يمنحوهم حنانًا مضاعفًا يعوّضهم عن كلّ دفءٍ مفقودٍ. الاستدراك يعني أن يقول الأبوان بلسان حالهم لا بكلماتهم: “نحن لم نترككم تائهين… حملنا الوطن في صدورنا لنزرعه فيكم”.
الاستدراك فعلٌ فلسفيٌّ قبل أن يكون واقعيًّا، إنّه مواجهة الذات، الاعتراف بالألم دون إنكاره، تحويل النّدم إلى حكمة، وتحويل الغربة إلى مصنع لإنتاج أرواح أقوى. هو أن تتحوّل الغربة من قيدٍ يسحق الهُويّة إلى جسرٍ يعبر به الأبناء نحو وعيٍ أوسع بالعالم، دون أن يفقدوا جذورهم.
وهنا يلتقي الذنب بالحبّ: فالشّعور بالذّنب ليس سوى صرخة الحبّ الّذي فشل لحظةً في حماية مَن نحب. لكن الحبّ الحقيقيّ لا يستسلم للفشل، بل يستدرك، ويصلح، ويعيد البناء من جديد. وحين يصل الأهل إلى هذه المرحلة، يتحوّل المنفى إلى امتحانٍ للإنسانيّة، لا إلى قبرٍ للأحلام. يصبح الأبوان وطنًا متنقّلًا لأبنائهما، وحين ينظر الأبناء في أعينهم بعد سنين، يدركون أنّ ما حفظهم ليس الأرض ولا البيوت القديمة، إنّما تلك القلوب التي ظلّت تُحارب الذنب بالحبّ حتى آخر رمق.
إنّ الهجرة -بكلّ ما تحمله من وجعٍ وذنبٍ- بدايةٌ لفهمٍ أعمق لمعنى الوطن والأسرة والإنسانيّة. فمن يعبر بحر الذّنب نحو ضفّة الاستدراك، يعود -ولو بعيدًا عن أرضه- إنسانًا أكثر صدقًا مع نفسه وأبنائه. وكأنّ الحياة تهمس له في المنافي:
“أخطأتَ حين رحلت، لكنّك وُلدتَ من جديد حين أدركتَ أنّ الوطن يمكن أن يسكن في حضنٍ وابتسامةٍ… لا في خرائط وجدران.
اقرأ أيضًا:
- من الجمر إلى القمم: كيف تصنع المحن عظماء الأمم؟
- قبل أن تنزل إلى الشارع: ما يجب أن تعرفه عن التظاهر من أجل فلسطين في بريطانيا
- بريطانيا لم تعد آمنة!
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇