الدين الذي يُرى لا الذي يُقال

لا تحدّثني كثيراً عن الجنّة،
أرِني أثرها في عينيك حين تنظر إلى الضّعفاء.
دع عيني تلمحها حين تواسي من لا يملك شيئاً سوى دموعه،
حين تبتسم لغريبٍ لا تتوقّع منه شيئاً،
حين تمدّ يدك لتحتوي بعيداً عن أن تحكم.
الجنّة ليست وعداً مؤجَّلاً في الغيب،
إنّما أفعالٌ صغيرةٌ تصنعها اليوم،
وتُخبّئها الملائكة في ميزانك دون أن تدري.
ولا تكثر عليّ الحديث عن الحلال والحرام،
دعني أراه في نزاهتك حين لا يراك أحدٌ،
حين تُعرض عليك الخيانة فتأباها،
لأنّ ضميرك لا ينام، وليس لأنّه مراقبٌ فحسب.
دعني أراه حين تُغلَق الأبواب ويبقى قلبك مفتوحاً لله،
حين تُحرم من شيءٍ فتعلم أن الله هو الّذي صرفه عنك، فترضى وتسكن.
الدّين الحقيقيّ لا يُقاس بما نبتعد عنه من المعاصي،
بل بما نقترب منه من صفاءٍ، من صدقٍ، من ضميرٍ حيٍّ لا يحتاج شاهداً إلّا الله.
لا ترفع صوتك بأحاديث الوعظ،
بل اخفض جناحك حين تختلف معي،
وأنت تملك ألف دليلٍ ضدّي تسحقني به.
ولا تجعل من الدّين مطرقةً تُهدّد بها المختلفين عنك.
كن ليناً،
فالحقّ لا يحتاج إلى صراخٍ،
بل إلى قلبٍ واسعٍ يتّسع لمن يُخالفك،
كما وسِع النبيُّ قوماً آذوه، فدعا لهم لا عليهم.
الرّحمة أقوى من ألف برهانٍ،
وأقرب إلى الله من مئات الحجج المنمّقة.
دعني أرى دينك في صدرك، لا في لسانك.
أرِني صدقه في عفوك حين تقدر،
في صبرك حين تشتدّ عليك الدّنيا،
في رجائك حين يضيق الأفق،
في تسامحك مع من جرحك،
وفي دمعتك الخفيّة حين تخلو بنفسك وتخجل من ضعفك أمام خالقك.
هكذا فقط أعرف أنّك تعرف الله،
لا حين تُحصي لي كم مرّة ختمت القرآن،
بل حين أشعر أنّك آية تمشي،
وأنّ الطّمأنينة تُرافقك كظلٍّ.
الدّين، يا صاحبي،
ليس لافتةً نرفعها،
ولا خطبةً نلقيها،
ولا طقوساً نؤدّيها كأنّنا نُسكت بها ضميراً هارباً.
الدّين هو ما يتبقّى من الإنسان حين تُجرّد منه الألقاب، والأزياء، والتّصنيفات.
هو أن تُنصف وأنت المظلوم،
أن تُعطي وأنت محتاج،
أن تصمت وأنت الأقدر على الرّدّ.
هو ألّا تحتاج لأن تبرّر نقاءك،
لأنه يُرى دون شرح، ويُلمس دون إثباتٍ.
الدّين الحقيقيّ لا يحتاج ميكروفوناً،
بل روحاً تنزف نوراً في عتمة القسوة.
فإن لم يجعلك أكثر إنسانيّة، فهو ناقصٌ،
وإن لم يكسرك برفقٍ حتّى تنهض أنقى، فهو قشرةٌ بلا لبٍّ.
وإن كنت صادقاً فلست بحاجةٍ أن تقنعني،
لأنّ ما هو من الله، يُحسّ ولا يُجادَل، يُلهم ولا يُفرض.
والحقيقة، حين تسكن القلب، لا تصرخ، بل تُضيء.
أما أنا،
فبوسعي أن أُحسن الخطاب، وأن أتزيّن بالحِكم، لكنّني لا أفعل،
لأنّني أعلم أن الله لا ينظر لما نقول، بل لما نكتم،
لما نُخبّئ، لما نُناضل كي لا نُظهِره في لحظات الغرور.
ومن ذاق الله، سَكَت،
لأنّ اللّغة لا تُعبّر عن اليقين، بل تُشوّهه أحياناً.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة