كيف سيؤثر الحكم القانوني لتعريف “المرأة” على سياسات بريطانيا؟

في خطوة قانونية غير مسبوقة، أصدرت المحكمة العليا في بريطانيا هذا الأسبوع حكمًا تاريخيًا من شأنه أن يُحدث تحولات جوهرية في السياسات الحكومية والمؤسسات العامة والخاصة، من هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) إلى الهيئات الرياضية ومراكز الإيواء والسجون. فقد أكدت المحكمة أن تعريف “المرأة” بموجب قانون المساواة لعام 2010 يُقصد به الجنس البيولوجي، وليس الجنس المعتمد بموجب شهادة الاعتراف بالجنس (GRC).
ويُتوقع أن يؤدي هذا الحكم إلى مراجعة شاملة للسياسات المتبعة حاليًا بشأن الأماكن والخدمات المخصصة لجنس واحد، وأن يعيد تشكيل النقاش الوطني حول الهوية الجنسية والحقوق الفردية.
ومن المتوقع أن تُصدر مفوضية المساواة وحقوق الإنسان (EHRC) مدونة قانونية جديدة بحلول الصيف المقبل لتوجيه الهيئات والمؤسسات حول كيفية تعديل سياساتها بما يتماشى مع الحكم الجديد.
ما تأثر الحكم على سياسات بريطانيا؟
الرياضة: وضوح قانوني يغير قواعد المشاركة
وصفت البارونة كيشوير فالك، رئيسة مفوضية المساواة وحقوق الإنسان، تأثير الحكم على المجال الرياضي بأنه “بالغ الأهمية”، مؤكدة أن تفسير المحكمة هو التفسير الصحيح قانونيًا.
وأضافت أن الحكم يمنح المنظمات الرياضية الوضوح اللازم لاتخاذ قرارات حاسمة، مشيرة إلى أن “الأمر يوضح الصورة ويساعدهم في تحديد ما يجب فعله”.
من جانبه، رحّب سيباستيان كو، رئيس الاتحاد الدولي لألعاب القوى، بالحكم، مشيرًا إلى أنه يزيل الغموض القانوني الذي كان يحيط بمشاركة المتحولين جنسيًا في المنافسات النسائية. وقال: “الحكم يحمي النساء في الأماكن الحيوية للرياضة، سواء كانت غرف تبديل الملابس أو قواعد السلوك في أرضية اللعب”.
وأكد القاضي اللورد باتريك هودج أن بعض بنود قانون المساواة لا يمكن أن تُطبق بفعالية إلا إذا فُسِر “الجنس” باعتباره الجنس البيولوجي، مشيرًا إلى أن “المشاركة العادلة للنساء” في الرياضة هي إحدى المجالات المتأثرة مباشرة بالحكم.
وأضاف الحكم أن استخدام “الجنس المعتمد بالشهادة” بدلًا من الجنس البيولوجي في الرياضة أدى إلى “انعدام الاتساق” و”مشكلات عملية”، مستشهدًا بمثال الملاكمة، حيث قد تجد النساء أنفسهن في وضع غير متكافئ أمام رجال من الناحية البيولوجية، ما يُشكل تهديداً لسلامتهن الجسدية.
ورغم أن العديد من الهيئات الرياضية البريطانية طبقت بالفعل سياسات تمنع الرجال البيولوجيين من المشاركة في منافسات النساء، إلا أن بعض الرياضات، مثل كرة القدم، لا تزال تسمح بمشاركة النساء المتحولات جنسيًا إذا استوفين شروط انخفاض مستويات التستوستيرون.
مراكز الإيواء وضحايا العنف الجنسي: مراجعة شاملة للسياسات
قالت المحامية المتخصصة في التمييز الوظيفي إليزابيث ماكلون، إن مراكز الإيواء يجب أن تراجع سياساتها في حال رغبتها في تقديم خدمات مخصصة للنساء البيولوجيات فقط، مشيرة إلى أن “تضمين سياسات شاملة للمتغيرين جنسيًا أدى إلى تمييع مفهوم الخدمات أحادية الجنس”.
وأضافت: “الحكم يمنح المنظمات الثقة في الإعلان عن أن خدماتها مخصصة للنساء البيولوجيات فقط”، مشددة على أن القانون بات يدعم هذا التوجه بشكل صريح.
وحذرت المحكمة من أن تفسير “الجنس” على أنه يشمل الجنس المعتمد بالشهادة قد يؤدي إلى مشكلات عملية، قائلة: “إذا أُجبر مقدمو الخدمات قانونيًا على تقديم خدمات كانت مقتصرة على النساء للنساء المتحولات اللواتي يحملن شهادة اعتراف بالجنس، حتى وإن كنّ يظهرن كرجال بيولوجيين، فسيكون من الصعب تبرير منع تلك الخدمات عن رجال بيولوجيين آخرين”.
من جانبها، أعلنت مؤسسة “ريفيوج” الخيرية أنها لن تغير سياساتها الحالية، مؤكدة التزامها بدعم جميع الناجيات من العنف المنزلي، بما في ذلك النساء المتحولات.
الخدمات الصحية NHS: دعوات للتسريع بمراجعة التوجيهات
توقعت فالك أن تقوم هيئة الخدمات الصحية الوطنية بإعادة تقييم شاملة لخدماتها، لاسيما وأن الإرشادات السابقة كانت تنص على التعامل مع المرضى حسب هويتهم الجندرية.
ودعت الهيئة إلى الإسراع بإصدار توجيهات جديدة، مؤكدة أن “الوضوح القانوني أصبح متاحًا الآن، ويمكن البدء فورًا بتنفيذ المقتضيات الجديدة”.
وفي حين أكدت وزيرة الصحة كارين سميث أن حقوق المرضى المتحولين لا تزال محفوظة بموجب قانون المساواة، أوضحت أن الحكم يتعلق بحقوق النساء وأهمية التزام مقدمي الخدمات بنصوص القانون.
وقالت متحدثة باسم هيئة (NHS) إن الهيئة تقوم حاليًا بمراجعة توجيهاتها بشأن أماكن الإقامة المنفصلة حسب الجنس، وستأخذ بعين الاعتبار التشريعات ذات الصلة والحكم القضائي الأخير.
غرف تبديل الملابس: إعادة ضبط للسياسات التنظيمية
أكدت فالك أن الحكم يُلزم بتخصيص غرف تبديل الملابس حسب الجنس البيولوجي، لكنها أوضحت في الوقت ذاته أنه لا يوجد إلزام قانوني على المؤسسات بتوفير خدمات أحادية الجنس، ولا مانع قانوني من توفير خيار ثالث، كالمراحيض أو غرف الملابس المختلطة.
تتزامن هذه التغييرات مع دعاوى قضائية تتعلق بممارسات داخل هيئة الصحة. ففي إسكتلندا، رفعت الممرضة ساندي بيجي دعوى ضد (NHS Fife) بدعوى تعرضها لتحرش غير قانوني بعد إجبارها على مشاركة غرفة تغيير الملابس مع امرأة متحولة.
كما تنظر محكمة التوظيف في نيوكاسل شكوى خمسة ممرضات من مستشفى دارلينغتون بشأن استخدام زميل متحول لغرفة مخصصة لجنس واحد.
ورغم أن الحكم لا يؤثر مباشرة على هذه القضايا، إلا أن خبراء قانونيين يرون أنه قد يدفع بعض المؤسسات للتسوية القانونية.
المراحيض: تحديات جديدة في بيئات العمل
قالت فالك إن “القانون واضح الآن: إذا أعلنت مؤسسة أنها تقدم مرحاضًا مخصصًا للنساء، فلا ينبغي أن يُستخدم من قبل المتحولات جنسيًا”.
وحذر بيتر بيرن، رئيس قسم قانون العمل بشركة “سليتر وغوردون”، من أن الموظفين المتحولين قد يُطلب منهم استخدام مراحيض مخصصة لذوي الإعاقة في حال عدم توفر مراحيض محايدة. وأشار إلى أن الخيار الذي كان يُمنح سابقًا للموظف لاختيار المرحاض الذي يشعر بالراحة باستخدامه “قد لا يكون متاحاً بعد الآن”.
بدورها، أكدت إيما بارتليت، الشريكة في مكتب “سي إم موري” والمتخصصة في قضايا التنوع والمساواة، أن العديد من المؤسسات كانت تسترشد بإرشادات منظمة “ستونوول” الداعمة لحقوق المتحولين، ولكنها قد تضطر الآن لمراجعة سياساتها. وأوضحت أنه لا توجد أطر قانونية تحدد طريقة تنظيم المراحيض في أماكن العمل، ولكن “الأمر يعود للمنطق واللياقة”، على حد قولها.
منظمات المثليات فقط: تأكيد للحق في التمييز المشروع
أقر القاضي هودج في حكمه بمشروعية مخاوف النساء المثليات اللاتي يشعرن بأن تفسير “الجنس” على أنه الجنس المعتمد بالشهادة قد يؤثر سلبًا على حقوقهن.
ورحبت كيت باركر، المديرة التنفيذية لتحالف المثليين (LGB Alliance)، بالحكم واعتبرته “نقطة تحول للنساء، وخاصة المثليات”، مؤكدة أن الحكم يثبت أن مصطلحي “مثلي” و”مثلية” يعنيان التوجه الجنسي تجاه نفس الجنس البيولوجي، ويمنح المثليات الحق القانوني في تشكيل جمعيات تستثني الرجال، حتى وإن كانوا يحملون شهادة اعتراف بالجنس.
السجون: تحديات في توزيع النزلاء وفق الجنس
سيكون لزامًا على سلطات السجون مراجعة سياساتها بعد الحكم، لاسيما في ما يتعلق بمكان احتجاز السجناء المتحولين. فبينما كانت السياسات تراعي احتياجات بعض السجناء المتحولين الذين يظهرون كامرأة، كانت هناك انتقادات من قبل ناشطات نسويات بأن المخاطر التي تواجهها النساء داخل السجون لم تحظَ بالاهتمام الكافي.
وأدت قرارات احتجاز مجرمين متحولين جنسيًا في مؤسسات نسائية إلى جدل عام متكرر، كما في حالة كارن وايت، المدانة بالاعتداء الجنسي، التي اعتدت على سجينات أخريات داخل سجن نسائي في 2018، أو في حالة آيلا برايسون التي نُقلت إلى سجن للرجال بعد أقل من 72 ساعة من احتجازها في سجن نسائي.
وقالت مصلحة السجون الإسكتلندية إنها بصدد دراسة تأثير الحكم، بينما لم يصدر بعد تعليق من وزارة العدل في إنجلترا وويلز، رغم تأكيد مصادر رسمية أنهم ما زالوا يراجعون نص الحكم.
جمع البيانات: تعزيز الشفافية والسياسات المستندة إلى الأدلة
أثار الغموض القانوني السابق بشأن جمع بيانات “الجنس” عقبات أمام بعض الجهات في توثيق البيانات المتعلقة بالنساء والرجال. فقد أدت إدراجات بيانات “الجنس المعتمد بالشهادة” إلى تشويه التحليلات الخاصة بقضايا اجتماعية وطبية.
وأوصى تقرير حكومي صدر الشهر الماضي بضرورة جمع بيانات دقيقة عن الجنس البيولوجي لدعم السياسات الصحية والتعليمية والاقتصادية، مؤكداً أن “الجنس متغير ديموغرافي أساسي، وجمع بيانات قوية بشأنه أمر حاسم لصناعة السياسات الفعالة”.
ورحب معدّو التقرير بالحكم القضائي الجديد، مشيرين إلى أنه سيساعد المؤسسات على جمع بيانات الجنس البيولوجي دون خشية من مخالفة القانون.
المصدر: الغارديان
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇