في خطوة قانونية غير مسبوقة داخل بريطانيا، سُلِّمت شرطة العاصمة لندن شكوى جنائية ضد 10 مواطنين بريطانيين، من بينهم مزدوجو الجنسية، على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة. ويأمل القائمون على هذه الدعوى أن تُشكّل سابقة قانونية رادعة لأي تجنيد مستقبلي في صفوف الجيش الإسرائيلي من قبل مواطنين بريطانيين أو مزدوجي الجنسية حول العالم.
وتستند الشكوى، التي أُعدت بالتعاون بين المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومركز القانون من أجل المصلحة العامة في بريطانيا، إلى ملف قانوني مؤلف من 240 صفحة، يتضمّن أدلّة مستقاة من مصادر مفتوحة وشهادات شهود وتحقيقات ميدانية أُجريت بالتنسيق مع خبراء في لاهاي.
فظائع في غزة.. وقانون بريطاني قابل للتنفيذ
تشير الشكوى إلى تورط المواطنين البريطانيين المعنيين في انتهاكات جسيمة ارتُكبت في قطاع غزة، تشمل القتل والتهجير والاستهداف المباشر للمدنيين وعمال الإغاثة والمنشآت المحمية بموجب القانون الدولي.
وقال المحامي فرانك ماغينيس، أحد المشاركين في إعداد الملف، لوكالة الأناضول: “المشروع يستهدف محاسبة 10 أشخاص بريطانيين، لكونهم متهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لقد رصدنا، بالاعتماد على معايير قانونية واضحة، أدلة تتعلق بالإبادة والقتل والتشريد القسري، وجميعها تدخل في نطاق الجرائم الدولية”.
وأوضح أن القانون البريطاني المحلي يحتوي على نصوص تتيح محاكمة هؤلاء الأفراد داخل بريطانيا نفسها، مشددًا على أن الدولة البريطانية مدعوّة إلى تفعيل تلك الآليات لتقديم المتهمين إلى العدالة. وأضاف: “يجب محاكمتهم، ونطالب الدولة باستخدام أدواتها القانونية القائمة لمحاسبتهم”.
تحمل الدعوى أبعادًا تتجاوز المساءلة القانونية، إذ تسعى أيضًا إلى التأثير على مسار التجنيد الأجنبي داخل الجيش الإسرائيلي. وقال ماغينيس: “نريد أن نبعث برسالة ردع واضحة لكل بريطاني يُفكر في الالتحاق بالجيش الإسرائيلي. هناك خطر حقيقي بأن يُلاحق قانونيًّا ويواجه القوة الكاملة للقانون البريطاني إذا شارك في هذه الانتهاكات”.
وأشار إلى أن المبادرة تنسجم مع جهود دولية مماثلة، على غرار التحرك القانوني الذي تقوده جنوب أفريقيا لملاحقة جنود يحملون الجنسيتين الإسرائيلية والجنوب أفريقية.
وأضاف: “ندرك أن الحكومة البريطانية قد تكون أقل استعدادًا من غيرها لمحاكمة جنود إسرائيليين، لكننا نأمل، من خلال التركيز على مواطنيها، أن تجد نفسها مضطرة للتحرك، لا سيما حين تُقدَّم أدلة دامغة على جرائم ارتكبها رعاياها”.
“تأثير تسونامي قانوني” على المستوى الدولي
من جانبه، وصف النائب في البرلمان البريطاني أيوب خان، عضو “تحالف المستقلين”، هذه الدعوى بأنها “خطوة أولى حاسمة، كان من المفترض أن تبادر بها الدولة ذاتها”.
وأضاف: “هذه القضية ستحدث صدى عالميًّا. إذا أُدين المتهمون، فقد يواجهون عقوبات قاسية، تصل إلى السجن المؤبد في بعض الحالات. لا شك أن هذا سيكون له تأثير رادع، ليس فقط داخل بريطانيا بل أيضًا في أوروبا والولايات المتحدة ودول أخرى تضم مواطنين مزدوجي الجنسية يقاتلون في صفوف الجيش الإسرائيلي”.
وقال خان إن القضية “ستكون لها ارتدادات بحجم تسونامي”، نظرًا لأن التجنيد في الجيش الإسرائيلي لا يقتصر على البريطانيين فقط، بل يشمل مواطنين من دول غربية أخرى، ما يجعل هذه الخطوة بمثابة إنذار قانوني دولي.
جرائم موثقة وضغوط على النظام القضائي البريطاني
تأتي هذه الدعوى بالتوازي مع ضغوط متزايدة على الحكومة البريطانية والنظام القضائي، خاصة بعد تصاعد المطالب الدولية بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات المرتكبة في غزة. وقد أُدرجت في ملف الدعوى وثائق تُظهر تحريض تنظيم القاعدة على اغتيال الأمير هاري بسبب خدمته العسكرية السابقة، في خطوة ترمز إلى خطورة مشاركة الأجانب في نزاعات خارجية.
كما أبرزت الوثائق واقعة مطاردة خطيرة بالأحياء المدنية في نيويورك، كان ضحيتها الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل، في مايو 2023، حيث خضع الحادث لتحقيق كشف عن “سلوك خطير واستهتار بقوانين المرور من قِبل المصورين”، ما يعكس خطر بيئة العنف والتحريض المرتبطة بمثل هذه الصراعات.
عدالة دولية.. ومحكمة الجنايات تتحرك
وقد أسفر العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، منذ أكتوبر 2023، عن مقتل أكثر من 50,800 فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، في واحدة من أكثر الحملات دموية في تاريخ الصراع.
وفي نوفمبر الماضي، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فيما تواجه إسرائيل دعوى منفصلة أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية.
تعكس هذه الدعوى القضائية اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام بريطانيا بمبادئ العدالة الدولية وحقوق الإنسان، لا سيما حين يكون المتهمون من مواطنيها. وفي ظل توسّع دائرة المحاسبة على الجرائم الدولية، قد تجد لندن نفسها أمام مفترق طرق: إما ترسيخ مبدأ سيادة القانون دون انتقائية، أو الوقوف على الهامش في لحظة تاريخية حاسمة من عمر العدالة الدولية.
