التّضامن مع فلسطين في بريطانيا: موقفٌ إنسانيٌّ لا معركة تحريرٍ ولا اختبار لحريّة التّعبير

منذ أكتوبر 2023، تشهد بريطانيا واحدةً من أطولِ موجاتِ التّضامنِ الشّعبيِّ في تاريخها الحديثِ، دعمًا لأهلنا في غزّة الّذين يتعرّضون لأبشعِ أنواعِ الإبادةِ والتّجويعِ والتّدميرِ الممنهجِ.
هذا الحراكُ الّذي انطلقَ من قلبِ الشّوارعِ البريطانيّةِ، وتبنّته مؤسّساتٌ مدنيّةٌ ونقابيّةٌ معروفةٌ، أثبتَ أنّ ضميرَ النّاسِ ما زال حيًّا، وأنّ صدى العدالةِ لا يموت أينما وُجد الظّلم.
لقد حافظتِ الفعاليّاتُ التّضامنيّةُ طوالَ العامين الماضيين على مستوى رفيعٍ من الانضباطِ والتّنظيمِ والالتزامِ بالقانونِ، وكانت نموذجًا في التّعبيرِ السّلميِّ الرّاقي عن الموقفِ الإنسانيِّ تجاه فلسطين.
مئاتُ الآلافِ من البريطانيّين والعربِ والمسلمين وغيرهم شاركوا في مسيراتٍ منظّمةٍ، خُطِّط لها بالتّنسيقِ مع الجهاتِ الرّسميّةِ، وعُرفت برسائلها الواضحةِ ومطالبها الواقعيّةِ: وقفُ الإبادةِ، ورفعُ الحصارِ، ومحاسبةُ مجرمي الحربِ، واحترامُ القانونِ الدّوليِّ.
ومع ذلك، فإنّ الالتزامَ بالقانونِ لا يعني الخضوعَ للقيودِ السّياسيّةِ الظّالمةِ الّتي تحاولُ وزارة الدّاخليّة — بقيادة شابانا محمود — فرضها على العملِ التّضامنيّ مع فلسطين. فالتّحرّكاتُ الّتي تُقيّد الشّعاراتِ أو تمنع الرّموزَ الفلسطينيّةَ تفتقرُ إلى أسسٍ قانونيّةٍ واضحةٍ، وتعكسُ في كثيرٍ من الأحيانِ ضغوطًا سياسيّةً متزايدةً متأثّرةً بالمواقفِ المؤيّدةِ لإسرائيل.
ورفضُ هذه القيود واجبٌ أخلاقيٌّ وقانونيٌّ، لكن المهمّ أن يكون هذا الرّفض استراتيجيّاً لا انفعاليّاً، بحيث لا نسهّل مهمّتها ولا مهمّة من يسيرون في اتّجاهها لتضييق الخناقِ على صوتِ العدالةِ.
إنّ العملَ لفلسطين في بريطانيا هو عملٌ تضامنيٌّ أوّلًا وأخيرًا، وليس بوّابة لتحريرِ فلسطين أو إدارةِ صراعها من هنا.
دورنا في الشّتاتِ، وخاصّةً في المجتمعاتِ الدّيمقراطيّة الغربيّة، هو أن نحافظَ على روايتنا حيّةً، وأن نُسهمَ في تشكيلِ الوعي العامِّ وصناعةِ الرّأيِ السّياسيِّ المؤثّرِ، دونَ تجاوزِ الحدودِ الّتي قد تُعرّض هذا الجهد للارتباكِ أو التّشويهِ أو الملاحقةِ القانونيّةِ.
العملُ التّضامنيُّ لا يقلُّ أهميّةً عن النّضالِ السِّياسيِّ في الميدانِ، لكنّه يختلفُ في طبيعته وأدواته.
فالمسيراتُ والمهرجاناتُ والوقفاتُ في بريطانيا ليست معارك ميدانيّةً، بل هي منصّاتٌ تعبّر عن موقفٍ أخلاقيٍّ وإنسانيٍّ، وتُذكّر المجتمعَ البريطانيَّ بمسؤوليّته التّاريخيّة تجاه فلسطين.
ومتى ما حُوّلت هذه السّاحات إلى ما يشبهُ “ميادين مواجهة”، فإنّها تفقدُ معناها وتضعفُ أثرها، وتمنحُ خصومَ القضيّة فرصةً لتجريمِ التّضامن نفسه.
إنّ الدّفاعَ عن حريّةِ التّعبيرِ في بريطانيا مطلبٌ مشروعٌ، ولكن يجب التّمييز بين معاركَ المبادئ العامّةِ ومعركةِ فلسطين ذات الحساسيّة الخاصّة في الوعيِ السّياسيِّ الغربيِّ.
فحين تُثار قضيّة حريّةِ التّعبيرِ، يمكن خوضها في ملفّاتٍ أقلّ توتّراً مثل البيئةِ أو العدالةِ الاجتماعيّةِ أو قضايا اللّجوء، أمّا الزّجّ بفلسطين في هذه المعركةِ القانونيّةِ المعقّدةِ فقد يُحمّلها ما لا تحتملُ ويعرّض العملَ التّضامنيّ لخطرِ الحظرِ أو التّضييق.
بريطانيا، رغم ما فيها من سياساتٍ منحازةٍ، ما زالت بلدًا يتيحُ مساحاتٍ حقيقيّةً للنّشاط المدنيّ، شريطة أن يُدار بحكمةٍ وبُعد نظرٍ. وهذه المسؤوليّة تقعُ على عاتقِ النّشطاءِ والمؤسّساتِ معًا: أن يحافظوا على الحراكِ الفلسطينيِّ في بريطانيا حيًّا ومشروعًا، وفي الوقتِ ذاته محميًّا من محاولاتِ الاختراقِ أو الاستفزازِ أو التّوظيف السّياسيّ السّلبيّ.
إنّ التّضامن مع فلسطين في هذا البلد هو رسالة ضميرٍ لا مشروع دولةٍ، ووسيلةٌ لحشدِ التّأييدِ الدّوليِّ لا لاستبدالِ دورِ الشّعبِ الفلسطينيّ نفسه.
ومن هنا، فإنّ الحفاظَ على هذا الفضاءِ الإنسانيّ المفتوحِ في بريطانيا هو مصلحةٌ فلسطينيّةٌ عليا، لأنّه يمكّننا من إيصالِ صوتِ غزّة والضّفّة والقدس إلى البرلماناتِ ووسائل الإعلامِ والرّأيِ العامِّ العالميِّ، دونَ انقطاعٍ أو حظرٍ.
نحنُ نؤمنُ أنّ لكلِّ شكلٍ من أشكالِ العملِ مكانه وحدوده.
فبينما يقاتلُ أهلنا في الدّاخلِ دفاعًا عن الأرضِ والكرامةِ، يواصلُ الفلسطينيّون والعرب في الخارجِ نضالهم المدنيَّ والإعلاميَّ والسّياسيَّ لحشدِ العالمِ نحو العدالةِ.
هذه التّكامليّة هي الّتي تمنحُ القضيّة الفلسطينيّة بُعدها العالميَّ، وتجعل من التّضامنِ الخارجيِّ قوّةً أخلاقيّةً مستمرّةً لا عابرة.
حراكٌ منضبطٌ يحفظُ الرِّوايةَ الفلسطينيّةَ
وعليه، فالمطلوبُ أن تبقى فلسطينُ حاضرةً في الوعيِ، وأن يظلَّ التّضامنُ معها منظّمًا وسلميًّا وإنسانيًّا. فبهذه الطّريقة نحمي الرّواية، ونصونُ الجهدَ، ونضمنُ أن يبقى الصّوتُ الفلسطينيُّ نقيًّا ومسموعًا.
اقرأ أيضًا:
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇