التمثيل في المهجر ليس امتيازًا ولا احتكارًا
كثيرًا ما أسمع أو أقرأ بيانات تصدر عن جهات تزعم أنها الممثل “الوحيد” أو “الرسمي” لمجموعة أو شريحة من الناس في بلد المهجر، وهو أمر أراه بحاجة إلى مراجعة عميقة. فتمثيل أي بلد عربي في بريطانيا أو غيرها من دول العالم ليس امتيازًا محصورًا في جهة بعينها، ولا يخضع لنظام الحصص أو الترخيص السياسي. بل هو حق مشروع لكل مجموعة متجانسة من أبناء ذلك البلد، أن تنشئ كيانًا أو رابطة أو تجمعًا يمثلها ويحتضنها ويعبّر عن تطلعاتها، بما يتناسب مع اهتماماتها وقيمها وهويتها.
أفهم تمامًا أن بعض هذه الكيانات تتشكل على أساس مشترك، كأن يجتمع الناس حول اللغة أو التراث أو الثقافة أو المرجعية الدينية أو حتى وفق تطلعات سياسية معينة، وهذا أمر طبيعي ومشروع، بل ومطلوب في أحيان كثيرة. الغربة – كما أراها – لا تدفع الناس إلى التشتت، بل إلى البحث عن قواسم مشتركة، وعن دوائر يشعرون فيها بالانتماء والأمان. وفي هذا السياق، من الطبيعي أن يفضّل البعض التجمّع مع من يشبهونهم أو يتقاطعون معهم في القضايا والهموم.
لكن ما لا يمكن قبوله، من وجهة نظري، هو أن تُصادَر هذه المساحة باسم “الاعتراف الرسمي” أو “التمثيل التاريخي”، وكأن الناس توقفت عن التطور، وكأن الأجيال الجديدة لا يحق لها أن تنظّم نفسها كما تشاء. الشرعية الحقيقية، في نظري، لا تأتي من وزارة أو سفارة أو ختم، بل من الناس أنفسهم، من ثقتهم، ومن احتضانهم لمن يخدمهم ويصغي إليهم.
وقد يكون من اللائق أدبيًّا – من وجهة نظري – احترام الأسبقية في استخدام المصطلحات والمسميات. فإذا كنتَ في بلد مثل بريطانيا، وأردت أن تهتم بأبناء بلدك الأصلي، وتلتقي معهم، وتؤسس كيانًا جامعًا لهم، وكان هناك كيان آخر يهتم بنفس الغرض قبلك، فإني أنصح – قدر الإمكان – بالبحث عن تسمية أخرى تعبّر عنك دون أن تكرّر ما سبقك إليه الآخرون.
فلو سمّى أحدهم كيانه بـ”الجالية القطرية” فيمكنك استخدام “الرابطة القطرية”، وإذا كان اسمه “ملتقى أبناء البلد” فبإمكانك أن تختار “منتدى أبناء البلد”، وهكذا. اللغة العربية واسعة وفسيحة، والمصطلحات فيها لا تُحصى. ولا أرى سببًا يجعلنا نتزاحم جميعًا على نفس الاسم ونفس القالب. أما إذا حدث اختلاف حول من الذي سبق ومن الذي أحق، فالأجدى – في الحد الأدنى – أن نُميّز بين الكيانات بألوان الشعارات المستخدمة، أو الرموز البصرية، أو حتى نوع الخط المستخدم في الاسم الرسمي. فالمجال – كما أراه – متسع للجميع، والبلد كبير، والعمل فيه كثير. بل إن وجود أكثر من كيان يعمل في نفس الاتجاه قد يخلق نوعًا من التنافس المحمود، الذي يحفّز على تطوير الأداء وتحقيق التميز في خدمة الناس.
ومن هنا أصل إلى نقطة أخرى أراها بالغة الأهمية، وهي مرتبطة باللغة والمصطلحات التي نستخدمها لوصف وجودنا في هذه البلاد. لقد صار مألوفًا أن يُقال “الجالية العربية” أو “الجالية المسلمة” أو “الجالية المصرية” أو “الجالية السودانية”، إلخ. وأنا أرى أن هذا التعبير – مع تقديري لمن يستخدمه – لا يخلو من إشكالية، لأنه يوحي بأننا مجرد ضيوف مؤقتين، أو أننا في مرحلة انتقالية لا بد أن تنتهي بعودة ما إلى الوطن الأم.
هذا الوصف قد يكون دقيقًا – ولو جزئيًا – في حالات استثنائية، مثل الحديث عن الجالية الفلسطينية، إذ يرتبط وجودها في الشتات بأمل العودة والتحرر من الاحتلال، وهو أمل سياسي لا ينبغي التنازل عنه. أما حين نتحدث عن العرب أو المسلمين في بريطانيا، فإن وصفهم بالجاليات لا يصف واقعهم كما هو، بل يعيد إنتاج صورة المغترب الدائم أو “الآخر المؤقت”، حتى لو وُلد هنا وحمل الجنسية البريطانية وشارك في بناء البلد.
من وجهة نظري، من الأصح والأدق أن نقول: العرب في بريطانيا، أو العرب البريطانيون، أو بالنسبة للمسلمين المجتمع المسلم البريطاني، لأن هذه التعبيرات تعبّر عن هوية جامعة، تعكس أن هؤلاء جزء من البلد، لا ضيوف عليه. وعندما أتناول شأنًا سياسيًا مثلاً، أفضل استخدام تعبير العرب البريطانيون، أي الذين يجمعون بين الانتماء القومي والانتماء الوطني، فهما لا يتعارضان.
لذلك، فإنني – على المستوى الشخصي – أشجّع على التخلي عن تعبير “الجالية” حين نتحدث عن مكونات أصيلة باتت جزءًا من النسيج الوطني في بريطانيا، وأدعو إلى استخدام تعبيرات تؤكد على الشراكة والانتماء، لا على العزلة والعبور المؤقت، وهي وجهة نظر شخصية تحمل الصواب والخطأ.
أقول هذا لا بدافع المصطلحات فقط، بل لأن اللغة تصنع التصورات، والتصورات تصنع السياسات، والسياسات تصنع المستقبل.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة