العرب في بريطانيا | التغلّب على الشّعور بالوحدة في المهجّر

1447 ربيع الثاني 18 | 11 أكتوبر 2025

التغلّب على الشّعور بالوحدة في المهجّر

المهجرّ الغربة الوحدة

الغربة رحلةٌ داخل الذات قبل أن تكون رحلةً في الجغرافيا.

حين يهاجر الإنسان، يترك خلفه شيئاً من نفسه في كلّ زاويةٍ من وطنه: رائحة البيت، صوت الأذان، أصدقاء الطّفولة، وحتّى تفاصيل الطّريق الّذي كان يسلكه كلّ صباح.

لذلك فإنّ أوّل ما يواجهه المهاجر بعد الوصول ليس اختلاف اللّغة أو العادات، إنّما ذلك الصّمت الثّقيل الّذي يسمّى الوحدة.

الوحدة في المهجّر تجربةٌ وجوديّةٌ تمتحن قدرة الإنسان على البقاء متوازناً وسط التبدّل. فالمهاجر يواجه فجأةً فراغاً روحيّاً هائلاً؛ لا وجوه مألوفة، لا لهجة قريبة، ولا دفء اجتماعيّ كما كان في الوطن. حتّى أبسط تفاصيل الحياة اليوميّة، من شراء الخبز إلى إلقاء التّحيّة، تحتاج إلى جهدٍ مضاعفٍ، فيصبح اليوم أثقل، واللّيل أطول.

لكنّ الوحدة ليست شرّاً مطلقاً.

كثيراً ما تكون المعلّم الأوّل للنّضوج، والمحرّض الخفيّ لاكتشاف الذات.

في الوطن، كانت المشاعر تُخفى تحت ازدحام الحياة والعلاقات، أمّا في المهجّر، فتخرج النّفس عاريةً أمام نفسها.
هناك فقط يبدأ الإنسان بالتعرّف على نفسه من جديد، على نقاط قوّته وضعفه، على ما يستطيع احتماله، وعلى ما يهرب منه.

أوّلاً: إدراك حقيقة الغربة لا مقاومتها

إنّ أوّل خطوةٍ للتغلّب على الوحدة هي تقبّل الغربة كواقعٍ لا كعقوبة؛ فالهروب النّفسيّ منها يزيد الشّعور بالعزلة، بينما الاعتراف بها يفتح باب التّأقلم.

من الطّبيعيّ أن يشعر الإنسان بالغربة في بيئةٍ جديدة، وأن يتألّم حين يُستبدل دفء العائلة بشاشة هاتف، وصوت الأمّ بمكالمةٍ متقطّعة. لكن حين يتحوّل هذا الألم إلى طاقةٍ للتكيّف، يصبح بدايةَ شفاء.

ينبغي للمغترب أن يمنح نفسه وقتاً ليتعرّف على تفاصيل المكان الجديد، وأن يخفّف من قسوته على ذاته؛ فالغربة ليست سباقاً للنّجاح السّريع، هي مسارٌ طويلٌ من إعادة البناء.

كلّما تصالح الإنسان مع فكرة أنّه يعيش بين عالمين، استطاع أن يجد توازناً داخليّاً بين الماضي والحاضر، بين ما كان وما سيكون.

ثانياً: المعنى أقوى من الوحدة

الوحدة تصبح مدمّرةً حين تخلو الحياة من المعنى؛ لذلك فإن أقوى سلاحٍ لمواجهتها هو أن يجد المهاجر هدفاً واضحاً يعيش لأجله.

قد يكون هذا الهدف تعلّم لغةٍ جديدة، أو متابعة الدّراسة، أو مساعدة الجالية العربيّة، أو حتّى الكتابة عن التّجربة.
حين يشعر المرء أنّ لوجوده أثراً، ولو بسيطاً، تخفّ وطأة الغربة عليه.

العمل الّذي يُرضي الرّوح يملأ الفراغ، لأنّ الوقت المليء بالمعنى لا يترك مكاناً للحزن. لا يحتاج المهاجر إلى معجزاتٍ كي يشعر بالسّعادة، ربّما يحتاج إلى نشاطٍ يوميٍّ يمنحه الإحساس بالإنجاز؛ فالمهجّر، على قسوته، يمنح فرصةً نادرةً لإعادة تعريف الذات: من أنا؟ ماذا أريد أن أكون؟ الإجابات لا تأتي إلّا عبر التّجربة والمواجهة، لا عبر البكاء على الأطلال.

ثالثاً: بناء الرّوابط الإنسانيّة الجديدة

من الأخطاء الشّائعة في الغربة أن ينعزل الإنسان خوفاً من الخذلان أو الاختلاف الثّقافي. لكنّ الانغلاق لا يزيد إلّا الألم؛ لذلك لا بدّ من الانفتاح الإنسانيّ على الآخرين، حتّى لو بخطواتٍ صغيرة: تحيةٌ لجار، مشاركةٌ في نشاطٍ تطوّعي، أو جلسةُ قهوةٍ مع أحد الزملاء. العلاقات لا تُبنى دفعةً واحدة، لكنّها حين تُبنى بصدقٍ تصبح درعاً ضدّ الشّعور بالوحدة.

كذلك، فإنّ التّواصل مع أبناء الجالية أو مع أشخاصٍ مرّوا بتجارب مشابهة، يمنح المهاجر شعوراً بأنّه ليس وحده في هذا العالم الجديد. القصص المشتركة، واللّغات المتقاطعة، والذكريات المتشابهة، كلّها تخلق جسراً من الألفة وسط بحرٍ من الاختلافات؛ فحتّى الغريب يحتاج إلى غريبٍ آخر ليتذكّر أنه ما زال إنساناً.

رابعًا: الحفاظ على الجذور دون الغرق في الحنين

من الطّبيعي أن يشتاق المهاجر لوطنه، لكنّ الحنين إذا تجاوز حدّه يتحوّل إلى سجنٍ روحيّ. ينبغي أن يبقى الماضي مساحةَ دفءٍ واستلهام، لا عبئاً يمنع المضيّ قُدماً؛ فالوطن الحقيقيّ في نهاية المطاف هو ما نحمله في داخلنا، لا ما نغادره خلفنا.

يمكن للإنسان أن يحافظ على جذوره بطرقٍ بسيطة: الاستماع إلى موسيقى بلاده، إعداد طعامها التّقليدي، الاحتفال بأعيادها، أو تعليم أطفالها لغتها. هذه التّفاصيل الصّغيرة تربط الحاضر بالماضي وتخلق توازناً بين الهويّة والانتماء الجديد؛ فالهجرة لا تعني نسيان الأصل، هي توسيع معنى الانتماء ليشمل الإنسانيّة جمعاء.

خامساً: التّغذية الرّوحية والاتّصال بالله

حين تخلو المدن من الوجوه المألوفة، يبقى الله وحده أنيساً لا يغيب.
الصّلاة، الذكر، والدّعاء، ليست طقوساً دينيّةً فحسب، إنّما جسورٌ روحيّةٌ تُرمّم القلب.
في المهجّر، يدرك الإنسان أنّ القرب من الله هو الوطن الحقيقيّ الّذي لا يُهاجر منه أحد.
فالسّكينة الّتي تنزل على القلب بعد مناجاةٍ صادقةٍ، قادرةٌ أن تملأ فراغ المدن الباردة بدفءٍ لا يُوصف.

الوحدة قد تدفع البعض إلى الضّياع، لكنّها قد تكون أيضاً طريقاً إلى النّور لمن أحسن استثمارها؛ ففيها يتطهّر الإنسان من الاعتماد على الآخرين، ويتعلّم أن ينهض بنفسه، وأن يجد في الخلوة معنى جديداً للحريّة.

سادسًا: الكتابة والتّعبير كنافذة خلاص

كثيرون وجدوا في الكتابة أو الفنّ أو الموسيقى خلاصهم من الوحدة. فالتّعبير عن الذات، بأيّ شكلٍ كان، يُحرّر المشاعر المكدّسة في الصّدر. قد يكتب المهاجر عن حنينه، عن الشّوارع الّتي تركها، عن صمته، أو حتّى عن نفسه كما لم يعرفها من قبل.

حين تتحوّل الغربة إلى نصّ، لا تعود وجعاً، تعود تجربةً تُروى، وتُشارك، وتُلهم غيره.

سابعاً: تذكّر أنّ الغربة ليست أبديّةً

في النّهاية، الغربة ليست قدراً سرمديّاً، هي مرحلةٌ من مراحل الحياة.

ستأتي لحظةٌ يعود فيها المهاجر إلى وطنه، أو يتصالح تماماً مع أرضه الجديدة فيشعر أنّه صار جزءاً منها. كلّ ما بين البداية والنّهاية ليس سوى رحلة تعلّمٍ عميقة؛ تعلّمه الصّبر، والاعتماد على الذات، وفهم الآخرين، وقيمة الأشياء الّتي كان يراها يوماً بديهيّةً.

إنّ التغلب على الشّعور بالوحدة في المهجّر لا يتحقّق بيومٍ أو شهر، يتحقّق بخطواتٍ متراكمةٍ، وبقرارٍ داخليٍّ بالعيش لا بالانتظار. فالغربة امتحانٌ للقلوب، لكنّها أيضاً فرصةٌ لإعادة اكتشاف الإنسان فينا.

ومهما طال الطّريق، يبقى في داخل كلّ مغترب ضوءٌ صغيرٌ يقاوم العتمة، يذكّره أنّه ليس غريباً ما دام يحتفظ بإيمانه، وأنّ المسافة بين الوطن والرّوح ليست إلّا تجربةً أخرى من تجارب الحياة الّتي تؤول في النّهاية إلى معنى واحد:
أنّ الإنسان أينما حلّ، إن وجد ذاته، فقد وجد وطنه.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

loader-image
london
London, GB
2:49 pm, Oct 11, 2025
temperature icon 17°C
broken clouds
61 %
1033 mb
2 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 54%
Visibility 10 km
Sunrise 7:17 am
Sunset 6:16 pm

آخر فيديوهات القناة