محو المستقبل: إبادة تعليمية واجتماعية تطال أطفال غزة
ما الذي يصنع مجتمعًا؟ أهو مجرد وجود أفراد، أم تلك الخيوط التي تمتد بينهم كالمدارس، والجامعات، والأرشيفات التي تسكنها الذاكرة؟ وماذا يحدث عندما تُقطع هذه الخيوط عمدًا؟
في مخيمات غزة الآن، يجلس الطلاب على التراب، على الركام، وسط الأطلال، يُسنِد الطلاب دفاترهم إلى ركبهم. جامعات غزة اختفت. المدارس اختفت. الجامعات والمكتبات والبحث والأرشيفات مُحيت. لكن الأساتذة والمعلمين، ما زالوا هناك. يُدرّسون في مواجهة المحو، يدرّسون ليس فقط ضد العنف الواقع على الأجساد الفلسطينية، بل ضد إبادة الممكن نفسه.
إبادة هياكل الحياة الجماعية

يمثل تدمير الأنظمة التعليمية ما يُعرف بمصطلح (sociocide) «السوسيُوسايد» . وهو، بحكم التعريف، عملية إبادة استراتيجية للهياكل التي تجعل الحياة الجماعية ممكنة. يسير جنبًا إلى جنب مع الإبادة الجماعية: فإذا كانت الإبادة تستهدف الأشخاص أنفسهم، فإن السوسيُوسايد يدمّر قدرتهم على العيش مجتمعين عبر تجريدهم من الوسائل التي تُمكّنهم من الحفاظ على حياتهم، أو تخيّل مستقبلهم، أو الوجود بما يتجاوز بقاء أفراد معزولين. وقد عرّف الباحث الفلسطيني سليم عبد الجواد السوسيُوسايد عام 1986 بأنه «التقويض التدريجي للهياكل الجماعية والنفسية للمجتمع الفلسطيني». واليوم، لم يعد هناك أي شيء تدريجي في الوتيرة.
تعرضت مدارس غزة وجامعاتها لاستهداف منهجي. حوّلت القنابل والغارات الجوية الفصول إلى أنقاض، مُزيلَةً المناهج مع انهيار المباني. المعرفة التي كانت تنتقل عبر الأجيال، والحق الأساسي في التعليم، كلها قُطع سيلها بعنف. حجم هذا الدمار التعليمي يفوق التصور: أكثر من 600 ألف طفل فلسطيني حُرموا من عامين دراسيين كاملين. بدلًا من التعلم والاختلاط، تنقلوا مرارًا بين أماكن النزوح، هاربين من الغارات والقصف، يقضون أيامهم غالبًا في البحث عن ماء وغذاء لعائلاتهم. الدروس متقطعة، والفصول مكتظة، أحيانًا بخمسين طالبًا جالسين على الأرض بلا مقاعد أو طاولات، يحاولون الدراسة وسط الفوضى.
بصيص أمل

ومع ذلك، ففي مدرسة الحسينة بالنصيرات، عاد الطلاب مع شيء من الأمل، رغم أن أطلال تعليمهم ما تزال حولهم. وردة رضوان، ذات الأحد عشر عامًا، التي انقطعت عامين عن الدراسة بسبب النزوح والحرب، قالت إنها تتطلع للعودة إلى حياتها التعليمية. هذه الأفعال الصغيرة للتعلم تمثل النبض الهادئ لشعب فلسطيني يقاوم المحو عبر الزمن، يرفض أن يُباد ماضيه وحاضره ومستقبله. كل فعل يشبه شهادة تقول إن الوجود هو الذاكرة، وإن الحياة والحكاية لا يمكن طمسهما. إنهم يكشفون ما يسعى السوسيُوسايد الإسرائيلي إلى إفنائه، بنى التعلم، نعم، لكن أيضًا تلك الخيوط غير المرئية في العالم المادي التي تشدّ الناس إلى بعضهم، وتُنشئ ما نسمّيه مجتمعًا.
بهذا المعنى، يمتد الفقد إلى ما يتجاوز الطلاب كأفراد. فالتعليم هو الوعاء الذي يحافظ المجتمع من خلاله على ذاته، الوعاء الذي تدوم فيه الذاكرة والثقافة والحياة المدنية. حين تُدمّر المدارس والجامعات، تتدمر معها الروابط التي تجمع المجتمعات: المعرفة المشتركة، وطقوس التعلم، والحوار بين الأجيال. بهذا تُهاجَم الذات دون محو الجسد، بتجريد الإنسان من قدرته على التعلم، والنمو، وتخيّل مستقبل ممكن.
مقاومة تحت القصف
ومع ذلك، يواصل الغزّيون الصمود. يبتكر المعلمون، وتحمي العائلات ما استطاعت من معرفة، ويعود الأطفال إلى الفصول رغم كل شيء. كل درس يشبه عملية إعادة بناء، شهادة على قدرة الحياة الاجتماعية على المقاومة تحت القصف. يمنح مصطلح «السوسيُوسايد التعليمي» لغةً لهذه الثنائية: للعنف وللمقاومة معًا، لمحاولة ممنهجة لجعل المجتمع غير قابل للتصوّر، وللشجاعة التي ترفض أن تسمح له بالاختفاء.
التعليم تهديد للسلطة الاستعمارية

مستقبل غزة معلّق بين المحو والصمود في وجهه. كل فصل مُدمَّر، وكل عام دراسي ضائع، جزء من استراتيجية متعمدة لتفكيك المجتمع الفلسطيني، ومن ثمّ تأمين الهيمنة الاستيطانية الإسرائيلية. يُستهدف التعليم لإلحاق معاناة فورية، ولأخطر من ذلك، لقطع انتقال الذاكرة والثقافة، وهدم البنى التي تُبقي شعبًا على صلته بأرضه وتاريخه وحقه في تقرير المصير. قراءة هذا الواقع تعني مواجهة عالم يُعامَل فيه العلم نفسه كتهديد للسلطة الاستعمارية. يبتكر المعلمون، ويعود الأطفال، لكن هذه الأفعال تعيش داخل نظام صُمّم لجعلها هشّة وغير مكتملة، ما يدفعنا للسؤال: كيف يمكن لمجتمع أن يستمر عندما تكون قدرته على إعادة إنتاج المعرفة والثقافة والحياة المدنية تحت حصار دائم؟ شعب غزة يصمد، لكن الصمود ليس تحررًا. الاستعمار الاستيطاني ليس ساكنًا؛ إنه يعيش على المحو البطيء والمنهجي للحياة الجماعية، ويبقى السؤال حاضرًا: إلى متى يمكن للصمود أن يستمر تحت هذا الدمار المتعمد؟ وما الذي يجب استعادته قبل أن يتحول البقاء إلى حرية؟
المصدر: ميدل إيست مونيتور
اقرأ أيضا
- انتقادات لبي بي سي بعد حذف تقرير عن معاناة أطفال غزة
- أجساد منهكة وعقول تتلاشى: ماذا يفعل التجويع بأطفال غزة؟
- في ظل الحرب: المعاناة الصامتة لنساء غزة وأطفالها
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇
