العرب في بريطانيا | محاكمة الماضي بعين الحاضر

1447 رجب 5 | 25 ديسمبر 2025

محاكمة الماضي بعين الحاضر

محاكمة الماضي بعين الحاضر
د. إبراهيم حمامي December 25, 2025

ليس الخطأ الأكبر في قراءة التاريخ أن نختلف حول ما جرى، بل أن نطالب الماضي بالإجابة عن أسئلة لم تُطرح في زمنه…

عندما تُستدعى قرارات قديمة إلى محكمة الحاضر، لا يكون الهدف الفهم بقدر ما يكون الإدانة بأثر رجعي، وكأن الفاعلين كانوا مطالبين بأن يروا ما لم يكن مرئيًا، وأن يتصرفوا وفق نتائج لم تتشكّل بعد.

هذا الخلط بين زمن القرار وزمن المعرفة اللاحقة هو جوهر الانحياز الاسترجاعي (Retrospective Bias)، حيث يتحوّل التاريخ من مساحة للفهم إلى ساحة اتهام.

القرار أو الموقف السياسي أو التاريخي لا يُتخذ في فراغ، ولا يُقاس بميزان ما سيحدث بعده بسنوات…

هو وليد لحظته، محكوم بظروفها ومعطياتها وتوازناتها، وبما كان متاحًا فيها من معلومات وخيارات، وما يطرأ لاحقًا من تحولات أو انقلابات في السياق لا يُبطِل عقلانية القرار في زمنه، ولا يحوّله تلقائيًا إلى خطأ، فالمستقبل، بحكم تعريفه، غير متاح لمن يتخذ القرار في الحاضر.

على سبيل المثال: يظهر هذا الخلل بوضوح في طريقة تناول الربيع العربي اليوم…

فكثيرًا ما يُوصَف بوصفه “خطأً تاريخيًا” استنادًا إلى ما أعقبه من فوضى أو حروب أو انتكاسات، وكأن لحظة اندلاعه كانت تملك علم ما سيحدث لاحقًا.

في واقع الأمر، جاءت الاحتجاجات في سياق انسداد سياسي واقتصادي خانق، وغياب شبه كامل لأفق الإصلاح، ما جعل الفعل الجماعي آنذاك استجابة عقلانية لواقع مختنق، لا مقامرة عبثية…

أن تنحرف المسارات لاحقًا أو تُجهَض بفعل قوى داخلية وخارجية لا يُحوّل لحظة القرار الأولى إلى خطأ في ذاتها.

الخلل الحقيقي يبدأ حين يُعاد تعريف الخطأ بأثر رجعي: فإذا جاءت النتائج سلبية قيل إن القرار كان خاطئًا منذ البداية، وإذا كانت مواتية رُفع إلى مرتبة الحكمة.

بهذا المنطق، لا يصبح التقييم أداة فهم، بل وسيلة تصفية حساب، ويُختزل التاريخ في سردية أخلاقية مبسطة تتجاهل التعقيد.

إن النقد الجاد لا ينطلق من النتائج وحدها، بل من تفكيك السياق: ما الذي كان معروفًا آنذاك؟ ما الخيارات الواقعية المتاحة؟ ما القيود التي حكمت الفعل؟

دون هذا، يتحوّل النقد إلى شعور زائف بالتفوق الأخلاقي، ويُغلق باب التعلّم بدل أن يفتحه.

محاكمة الماضي بعين الحاضر ليست شجاعة فكرية، بل كسل ذهني.

أما قراءة الماضي في شروطه، فهي وحدها التي تمنحنا فهمًا أعمق للحاضر، وقدرة أصدق على اتخاذ قرارات أقل وهمًا وأكثر تواضعًا أمام تعقيد الواقع.


اقرأ أيضًا:

اترك تعليقا

آخر فيديوهات القناة