كيف يغير الفقد نظرتنا للحياة.. في وداع الوالد

وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌۭ قَالُوٓا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ أُو۟لَـٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌۭ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌۭ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ (سورة البقرة، الآيات 155–157).
توفي والدي، عبدالله ربيعة فارس، يوم الخميس الـ5 من شعبان 1445هـ (15 فبراير 2024).
لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
لقد كانت رحلة طويلة وصعبة له ولعائلتنا بدأت بتشخيصه بسرطان البروستاتا في عام 2005، ثم زادت شدتها خلال الـ12 شهرًا الماضية مع فقدانه للحركة وسلسلة من حالات الطوارئ الطبية حتى لفظ أنفاسه الأخيرة يوم الخميس الماضي، ودُفن بعد صلاة الجمعة في اليوم التالي.
عندما يموت شخص ما، في الغالب نتأمل في إرثه والدروس الحياتية التي تركها لنا. والحمد لله، تعلمت الكثير من والدي، ولا سيما في سلوكياته وحسن تعامله مع الناس. ومع ذلك، ففي هذا المقال، أردت أن أتأمل في وفاته. لقد تعلمت الكثير خلال هذا العام الأخير منه ومن عملية الاحتضار، وأرغب في تدوين هذه الدروس أولًا لنفسي ولعائلتي، وثانيًا لنقل المعرفة النافعة لأي ابن أو مقدم رعاية يعتني بوالد، أو زوج، أو قريب، أو صديق يحتضر.
1. هذه هي الجنة
قبل نحو عام، سقط والدي على درجات مسجد بينما كان ذاهبًا لصلاة العشاء في مسقط رأسه بدار السلام، تنزانيا. أدى ذلك السقوط إلى مجموعة من المضاعفات الطبية، ثم انتقاله إلى دبي للعلاج، وجعله مقعدًا على كرسي متحرك ويحتاج إلى رعاية مستمرة.
خلال الأيام الأولى من سقوطه، التفت إلي صديق عائلي عزيز وقال:
“هذه هي الجنة… ما تفعله هو الجنة… لا تتخلَّ عنها… ابقَ قريبًا من والدك”.
كانت هذه التذكرة هي ما قلب الموقف بالنسبة لي من كونه ألمًا أو خسارة إلى كونه فرصة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
ظلت هذه التذكرة تتردد في أذني مع ازدياد الصعوبات خلال الأشهر التالية.
2. تهيئة نفسي روحيًّا
عندما سقط والدي، كان لدي شعور بأن النهاية قريبة. اتصلت بصديقي العزيز والعالم، الشيخ خليل عبد الرشيد، مرشد المسلمين في جامعة هارفارد، لطلب النصيحة والمشورة الروحية، وهذا ما قاله:
هذه نعمة من الله أنك استطعت أن تكون مع والدك في أيامه الأخيرة. لذا، أولًا وقبل كل شيء، يجب أن تشكر الله على هذه النعمة.
هذا ليس سهلًا، لكنه جزء من رحمة الله. يمكنك أن تذرف الدموع، لكن لا تيأس.
فكّر في ما تريد أن تقوله له، واغتنم هذه اللحظات لتقول ما تريد قوله.
اسأله عن نصيحة في كيفية العيش، واستمع وخذ بنصيحته لبقية حياتك، وانقلها إلى أبنائك.
احصل على وصاياه ونصائحه بشأن كيفية التعامل مع ممتلكاته، وكيف يجب أن يُعامل جسده، وأين يُدفن. كيف ينبغي أن نستمر كأسرة بعده؟ ما الصدقات التي يجب أن تُعطى؟ دوّن هذه الوصايا!
في اللحظات الأخيرة، أمسك يده وقل “لا إله إلا الله”. هذه لحظة تنزل فيها الملائكة، أنت في صحبة الملائكة. لا تخف، ولا تحزن. سترى والدك في حالات روحية مختلفة. ستقول كلماتك الملهمة، وسيقول هو كلماته. إنها تجربة عظيمة ومتواضعة.
هذه اللحظة تذكير لك أيضًا بأن دورك هو التالي. وابدأ بترتيب شؤونك.
والدك سيحصل أخيرًا على ما يريده في الجنة، هي مسألة وقت فقط، كما وعد الله المؤمنين.
نحن في وقت مقدس أشهر رجب، وشعبان، ورمضان، ثم أشهر الحج. وقت مبارك للوفاة.
اسأل عن الصدقات التي يريد تقديمها. هل عليه ديون؟ زكاة سابقة؟ صلوات؟ صيام؟ ناقش هذه الأمور عاجلًا غير آجل.
لا أستطيع القول إني طبقت كل النصائح أعلاه، لكني كنت أعاود قراءتها وأتأملها كثيرًا.
3. الأيام طويلة، لكن السنة قصيرة
“تأمل: أصعب شيء في الابتلاءات ليس الصدمة أو الدراما الأولية، بل أصعب شيء هو التكيف مع الواقع الجديد والقدرة على الاستمرار في هذا الواقع”، رسالة واتساب أرسلتها إلى دائرتي المقربة من الأصدقاء.
كثيرًا ما نسمع أن “الأيام طويلة، لكن السنوات قصيرة” عند تربية الأطفال. أشعر أن العبارة نفسها تنطبق على أحد الوالدين المصابين بمرض عضال ويتطلب رعاية مستمرة وتوقعات قاتمة.
المتطلبات اليومية المستمرة من إطعام، وإلباس، وتنظيف، وحمل، ورعاية والدي (معظمها كانت تقوم بها والدتي، بارك الله فيها)، إلى جانب تقلبات المزاج والألم الجسدي والنفسي، تجعلك تشعر بالتعب والإنهاك طوال الوقت.
الأيام تتداخل مع الأسابيع والشهور، وهناك جزء منك يتساءل: “هل سينتهي هذا يومًا ما أو يتحسن؟”، وهناك جزء آخر يندم على طرح هذا السؤال ويدرك أن النهاية قد تكون أقرب مما يظن.
تتعلم أن تحتضن الحاضر، وتتوقف عن التفكير والقلق من المستقبل، وتكتفي بالشكر على يوم آخر ونَفَس آخر.
4. تفعيل وضع التزلج على الأمواج
تعريف وضع التزلج على الأمواج: عندما تلقي الحياة تحديات مجنونة لا يمكنك إلا أن “تركب الموجة”.
مواجهة موت والدي أشعرتني بأني أواجه موجات متلاحقة من الصعوبات والابتلاءات. أحيانًا يكون الابتلاء طبيًّا، وأحيانًا يكون ماليًّا، وأحيانًا يكون نفسيًّا. لا يمكنك إيقاف الموجات القادمة؛ كل ما يمكنك فعله هو ركوبها.
ومن هنا، ابتكرت مصطلح “وضع التزلج” لأُذكّر نفسي بأنه بدلًا من محاولة “مقاومة” الموجات، يجب أن أتعلم ركوب كل موجة عند مجيئها، مهما كانت كبيرة. هذا الرمز التعبيري 🏄🏽♂️ أصبح طريقتي المختصرة لإخبار أصدقائي كل مدة أنني أركب موجة جديدة.
5. الصعوبات والتيسير
“إن مع العسر يسرًا”.
من السهل أن نظن أنني عشت عامًا من الشقاء والكآبة وأنا أشاهد والدي يذبل ببطء.
لكن الحقيقة أننا شهدنا لطف الله وتيسيره طوال هذا الابتلاء.
من إيجاد فريق الرعاية المناسب، إلى أن يرسل الله لنا الأشخاص المناسبين ليذكّرونا بالصبر عندما نكون على وشك اليأس، إلى المعجزات الصغيرة التي حدثت على طول الطريق، والتي لا يمكن أن تكون مجرد “مصادفات”.
تقدير “الخير” في هذا الوضع كان بمثابة البوصلة بالنسبة لي، وربما لن أدرك المدى الكامل لفضل الله علينا خلال هذه الأوقات الصعبة حتى مرحلة متأخرة من حياتي.
6. جهاد خدمة الوالد المحتضر
جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَهُ في الجِهَادِ، فَقَالَ: أحَيٌّ والِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ. (أي في رعايتهما وخدمتهما)” (أخرجه البخاري).
عليّ أن أعترف: لم يكن من السهل رعاية والدي، وكانت هناك لحظات من الإحباط وحتى، أجرؤ أن أقول، الاستياء.
الآن أفهم لماذا وصف النبي ﷺ خدمة الوالدين في كبرهما بأنها جهاد ولماذا قال القرآن: “فلا تقل لهما أُفٍّ”.
كانت السنة بمثابة جهاد حقيقي لنفسي حتى لا أشعر بالتعب أو الاستياء من الوضع، وصراعًا ضد لساني حتى لا أعبر عن الانزعاج من المطالب المستمرة من والدي.
بلغت أدنى المستويات التي لا يعلم بها إلا الله، لكني خرجت منها برحمته وفضله.
اللهم اغفر تقصيري وتقبل القليل الذي قدمته له. آمين.
7. الرغبة في الهروب مقابل البقاء
عندما يكون شخص ما يحتضر -اعتمادًا على ظروفه- يكون هناك الكثير من الانتظار:
انتظار الطبيب
انتظار الانتهاء من إجراء
انتظار أن يأكل المريض أو ينام أو يستخدم الحمام… إلخ.
انتظار الموت
رد فعلنا المعتاد عند انتظار شيء ما هو أن نُخرج هواتفنا ونبدأ بتصفح وسائل التواصل الاجتماعي، أو مراسلة أصدقائنا أو فحص بريدنا الإلكتروني.
لكن اليوم الذي وجدت فيه نفسي مدمنًا على تصفح مقاطع يوتيوب عديمة الفائدة بينما كان والدي يتألم، علمت أن هناك شيئًا خاطئًا، وأنني كنت أحاول الهروب ذهنيًّا من الموقف.
أدركت أن نفسي لم تكن مستعدة لأن تكون موجودة وأن تواجه موت والدي والمشاعر المصاحبة لذلك؛ لقد أرادت أن تُشتّت نفسها بمقاطع “مستر بيست” أو لقطات “أفضل الأهداف على الإطلاق”.
على مدى عدة أسابيع، كان عليّ أن أضع استراتيجيات لمحاربة هذا الهروب، من حذف يوتيوب من هاتفي إلى توجيه نفسي إلى قراءة القرآن أو الذكر كلما شعرت برغبة في الهروب.
لم أنجح دائمًا، وأحيانًا أخفقت، لكن ذلك كان جزءًا من الجهاد.
8. لعبة التحمّل
من خلال هواياتي في ركوب الدراجات والجري، أدركت أن الالتزام برعاية والدي لعدة أشهر يتطلب التحمّل، لا مجرد سباقات سريعة.
وسر التحمّل هو تعلم كيف تزود نفسك بالوقود وكيف تتعافى أثناء بذل الجهد.
إيجاد وقت للراحة، والنوم، وتناول الطعام، وحتى التمرين كان ضروريًّا لبناء تحمّل طويل الأمد للرعاية.
ومع ذلك، لم أتمكن من إنكار شعور الذنب الذي كنت أشعر به كلما ذهبت للجري أو أخذت قيلولة، وأنا أعلم أن والدي يتألم أو أن أمي وأخي كانا مع والدي بدلًا من القيام بما يحبانه.
كان عليّ أن أتعامل مع هذا الذنب بتذكير نفسي أن جزءًا من رعاية شخص ما هو التأكد من أنك تعتني بنفسك وبفريق الرعاية حتى نتمكن جميعًا من البقاء بجانبه على المدى الطويل.
9. إجراء محادثات صعبة
واحدة من أصعب المحادثات التي يمكن أن تُجرى مع شخص يحتضر هي ما يرغب في حدوثه بعد وفاته.
من أشياء عملية مثل الوصول إلى حساباته البنكية ومعرفة ممتلكاته أو ديونه إلى تفضيلاته الطبية في الحالات الحرجة.
أحد أصدقائي أوصى بأن أحضر قلمًا وورقة وأجري هذه المحادثة مرة واحدة. مهما كانت مؤلمة، سيتم الأمر مرة واحدة، وتنتهي.
بالنسبة لوالدي، تحدثنا عن ممتلكاته وديونه، لكننا لم نصل إلى نقطة وصيته. هذا ذكّرني أننا جميعًا بحاجة إلى وجود وصية محددة بوضوح قبل وفاتنا؛ لتسهيل الأمر على ورثتنا، ومعرفة ما يجب فعله بالضبط بدلًا من تفسير ما يجب القيام به.
ميزة إجراء هذه المحادثة مرة واحدة هي أنه بمجرد أن تنتهي، يمكنك قضاء بقية الوقت في الحديث عن كل شيء آخر غير الأمور الصعبة. يمكنك مشاركة الذكريات، وطلب نصيحتهم بشأن خططك، أو البقاء صامتًا في لحظات من التأمل.
10. التخطيط لحياتك بشأن شخص يحتضر
عندما يكون شخص ما يحتضر، فإن أفقك الزمني يتراوح بين ساعات قليلة إلى عدة أشهر.
أحيانًا كانت الأمور تبدو جيدة مع والدي، وكنا متفائلين بأنه سيبقى لعدة أشهر، وأحيانًا كانت الأمور حرجة حتى إننا لم نكن متأكدين من أنه سيعيش ليوم آخر.
كان من الصعب جدًّا محاولة التخطيط للحياة ضمن هذا الأفق الزمني المتقلب.
في النهاية، تعلمت أن أتبنى عقلية البستاني وأصلي استخارة على كل قرار صغير أو كبير؛ لأنني لم أكن أعلم ما الذي يحمله المستقبل، وأدع الأمور تتكشف من تلقاء نفسها بدلًا من محاولة “التحكم في الوضع”.
يمكنكم قراءة كامل المقال من خلال هذا الرابط هنا.
المصدر: productivemuslim
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇