علمني الشيخ الكملي

جملة ما زالت عالقة في ذهني من خطبة الشيخ سعيد الكملي لمّا زارنا في بيرمنغهام، كان مضمون الخطبة يتناول الحث على فعل الحسنات والإقبال على أعمال البر، وترك الذنوب والبعد عن مواطن الريبة والأمور غير المستحسنة بطبيعة الحال.
بيد أنه ذكر جملة وقعت مني -على قصرها وشهرتها- موقعًا حسنًا وأثّرت فيّ، وما ذلك إلّا لإخلاص الشيخ وصدقه نحسبه ولا نزكيه على الله.
قال: لا تحقرنّ من الحسنات شيئًا؛ فلا تدري أيها تكون الموجبة، ولا تحقرنّ من الذنوب شيئًا فلا تدري أيها تكون الموجبة.
لا تحقرنّ من الحسنات دقيقها وجليلها كابتسامتك في وجه أحدهم، والسؤال عن حاله وإن كان على غير دينك؛ فلا تدري لعل بوقوفك لثواني قد تغيّر يومه، بل تتبدل حياته كلها رأسًا على عقب، وقد يُكتَب لك القبول بسببها وتوجب لك الجنة.
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: يقول الله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزْيَد، ومن جاء بالسيئة فجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها أو أغفِرُ… الحديث).
وقد سُئل أحد السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفة السيئة فأجاب: لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقُلت، فلا يحملنك ثقلها على تركها، وأما السيئة فحضرت حلاوتها، وغابت مرارتها فلذلك خفت، فلا يحملنك خفتها على ارتكابها.
مؤخرًا مرت عليّ قصة من قديم الزمان -يُستحسن أن تُذكَر في هذا المقام- بسبب عمل يسير قد لا يخطر على البال، لكن أثره ما زال من 1250 عامًا إلى يوم الناس هذا وإلى يوم القيامة، إلّا أن يشاء الله. فتعال معي وأنت حاضر القلب هذه المرة -لعل الله ينفع بك- لأقص عليك حادثة وقعت في المدينة المنورة لفتية أبى التاريخ إلّا أن يُخلّد ذكرهم وصنيعهم في صفحاته.
مفادها كما يذكر أبو زيد الشنقيطي -بتصرف- أن شابًّا من بلاد مصر يقال له عثمان بن سعيد اشتُهر بلقب ورش (الإمام ورش عن نافع صاحب القراءة المتواترة التي يُقرأ بها القرآن الكريم) في بداية الطلب رام تعلم القرآن على يد الإمام نافع في المدينة المنورة، فأخذ يقطع الفيافي والقفار، متكبدًا الصعاب، وضاربًا أكباد الإبل يمنة ويسرة.
لكن ما إن وصل إلى بُغيته حتى وجد زحامًا شديدًا، فالشيخ يومه ممتلئ بطلاب العلم والقرآن ولم يجد له فسحة في تدريسه، فأخذ يتودد للشيخ ويتوسل إليه لعلّه يراعي غربته، فلم يجد الإمام إلّا وقتًا يسيرًا قبيل الفجر.
مع الأيام رق أحد طلاب الشيخ المدنيين -أي من سكان المدينة المنورة- لحال ورش، وأخبر الشيخ أن قد تبرعت بوقتي لهذا الغريب.
رأى زميل الطالب المتبرع ذلك الموقف، فأعجبه الأمر فتبرع هو أيضًا، وسمع آخر بصنيعهم فأراد أن يُشاطرهم الأجر فتبرع كذلك، وهكذا حتى تبرع جميع الطلاب آنذاك بحصتهم لهذا الغريب، فطول مكوثه عند الشيخ يساعده في تحصيل أكبر قدر ممكن من العلم والضبط، ويمّكنه كذلك من الرجوع إلى أهله في أقرب وقت ممكن، سبحان من وفقه ووفقهم!
وهو ما كان فعلًا فقد أتم ورش القرآن على يد الشيخ خمس ختمات في مدة زمنية قصيرة، وشكر الإمام وشكر الطلاب المتبرعين، وقفل راجعًا إلى أهله ودياره سالمًا غانمًا، ورجع الطلاب إلى حلقتهم المعتادة مع شيخهم، وعادت المياه إلى مجاريها كما يقال.
مرت الأيام والسنون وتوفي الإمام ورش ومن قبله الإمام نافع وتوفي الطلاب، وانطوت صفحة أولئك القوم. وشاء الله أن تُخلّد رواية ورش عن نافع، ومنذ ذلك اليوم إلى يومنا يقرأ كثير من الناس القرآن على رواية ورش، قرابة أكثر من 1250 عامًا كلها حسنات تصب في مصلحة الطلبة المتبرعين بأوقاتهم… يا الله!
ظلت حصصهم التي تبرعوا بها للغريب وقفًا جاريًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلّا أن يشاء الله، فكم من عمل صغير تكبره النية، وكم من عمل كبير تُصغره النية كذلك!
وهكذا طاهر القلب ينافس ويسابق، لكنه يُؤثر ويحب الخير لغيره، ويعلم أن مشاركة الناس تنفعهم ولا تضره.
أما -مُشوّه القصد- فلا يرضى لأحد المشاركة، بل قد يتفنن في قطع الطريق على عباد الله، فيضعه الله من حيث طلب الرفعة لنفسه.
يكمل الشنقيطي: وليس العجب من خلود الرواية فحسب، بل العجب العجاب توفيق الله للفتية الذين ألهمهم هذا العمل اليسير، فتمضي السنون والأعوام، ورواية هذا الغريب يُتعبَّد بها لفظًا ورسمًا وصلاةً، وثواب كل ذلك قسمة بينهم وبين ورش ونافع.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇
احسنت النقل والسرد بارك الله لك