العرب في بريطانيا | الإصرار والمثابرة في الغربة: حين تُزرع الأحلام ...

1447 جمادى الثانية 16 | 07 ديسمبر 2025

الإصرار والمثابرة في الغربة: حين تُزرع الأحلام رغم انعدام المعدات

WhatsApp Image 2025-11-04 at 8.33.38 AM

الغربة امتحانٌ طويلٌ للإرادة الإنسانيّة، واختبارٌ صعبٌ لقدرة الرّوح على الصّمود حين تُسلب منها كلّ أسباب القوّة.

في الغربة، تنكشف معادن النّاس، ويظهر الفرق بين من ينتظر المعجزة، ومن يصنعها بيديه العاريتين.

كثيرون يظنّون أنّ تحقيق الأحلام يحتاج إلى أدواتٍ متاحة، أو بيئةٍ مناسبة، أو من يدعم المسيرة. غير أنّ الحقيقة الّتي لا يدركها إلّا من عاش الغربة بكلّ تفاصيلها، هي أنّ الإصرار نفسه أعظم المعدّات، وأنّ المثابرة الصّامتة في العراء، توازي ألف أداةٍ في يد المتكاسل المترف.

كم من مغتربٍ استيقظ في غرفةٍ ضيّقةٍ باردةٍ، لا يملك سوى حلمٍ ينام على وسادته كلّ ليلة. كم من روحٍ وقفت على حافة الانهيار، لكنّها رفضت السّقوط، وقرّرت أن تخلق لنفسها معنى، مهما ضاق المكان واشتدّ الزمان. فالمعدّات الحقيقيّة لا تُحمل في الحقائب، إنّما تُزرع في العقل والقلب والنّية.

في الغربة، يُعاد تعريف النّجاح من جديد، إذ أنّه لم يعد النّجاح هو ما تحقّقه أمام النّاس، وإنّما ما تصمد من أجله حين لا يراك أحد.

هو ذاك الجهد الخفيّ في منتصف اللّيل، ذلك السّعي في ظلّ التّعب، تلك المحاولات الّتي لا يشهدها أحد، لكنّها وحدها تبني الطّريق إلى الحلم.

الغربة تعلّمك أن كلّ ما حولك قد يُسلب منك: المكان، اللّغة، الأصدقاء، وحتّى الأمان، لكنّ ما لا يمكن لأحدٍ أن ينتزعه هو إصرارك الدّاخليّ على النّهوض كلّ مرّة.

وحين تنهض رغم انعدام المعدّات، فأنت لا تصنع حلماً فحسب، ربّما تصنع إنساناً جديداً داخلك.

في لحظاتٍ كثيرة، يبدو الطّريق مستحيلاً: تتعثّر الخطوات، تذبل الطّموحات، وتبدو كلّ فكرةٍ كأنّها عبءٌ ثقيل. غير أنّ المثابرة ليست في ألّا تسقط، المثابرة في أن تنهض كلّ مرّةٍ بعد السّقوط، أقوى من ذي قبل، أكثر صمتاً، وأعمق وعياً.

لقد وُلدت أعظم الإنجازات من رحم الحرمان.

الّذين حُرموا المعدّات صنعوها من العدم، والّذين فقدوا الدّعم استمدّوه من أنفسهم، والّذين عاشوا في المنافي حوّلوا الغربة إلى مدرسةٍ للخلق والإبداع.

ذلك لأنّ الإنسان حين يُجَرَّد من كلّ ما حوله، يجد نفسه مضطرّاً إلى اختراع ذاته من جديد، إلى استنطاق ما فيه من طاقةٍ دفينة، لم يكن ليكتشفها لولا الألم.

الغربة تُنقّي الأقوياء من الشكوى.

هي المكان الّذي تتعلّم فيه أن السّقف الّذي يقيك المطر يمكن أن يكون فكرة، وأنّ الدّفء لا يأتي من المدفأة ربّما من إيمانك بأنّك ستنجح مهما كان الطّريق وعراً.

كلّ تحدٍّ صغيرٍ في الغربة هو تدريبٌ على الصّبر، وكلّ إنجازٍ بسيطٍ هو نصرٌ على المستحيل.

الإصرار في الغربة يشبه بذرةً صغيرةً تُزرع في صخرٍ، يظنّها الجميع ميتة، لكنّها تشقّ طريقها نحو الضّوء بإصرارٍ غريب.

والمثابرة هي تلك اليد الخفيّة الّتي تسقيها رغم شحّ الماء، لأنّها تؤمن أنّ الحياة، وإن تأخّرت، ستنبت يومًا.

قد يمرّ المغترب بأيّامٍ لا يجد فيها شيئاً، لا أدوات، لا علاقات، لا فرص، لكنّه يجد نفسه.

وحين يعرف الإنسان نفسه، يعرف أنّه يملك ما هو أعظم من كلّ ما فقد: يملك الإرادة الّتي لا تُهزم.

ولأنّ الطّريق في الغربة قاسٍ، فإنّ كلّ خطوةٍ تُعدّ انتصاراً، وكلّ محاولةٍ هي معركة. لا شيء يُمنح مجاناً، وكلّ شيءٍ يُنتزع بالعرق والصّبر والدّموع.

لكنّ جمال هذه الرّحلة، رغم ألمها، أنّها تصنع من الإنسان كائناً جديداً، صلباً، شجاعاً، وواعياً بقيمة ما أنجزه.

وفي النّهاية، لا شيء يسمو على الحلم الّذي وُلد في الغربة وتحقّق فيها.

فالحلم الّذي يُزرع على أرضٍ غريبة، بلا أدواتٍ ولا معونة، هو الحلم الّذي لا يذبل؛ لأنّه تغذّى من صبرٍ حقيقيٍّ وإيمانٍ عميق.

إنّ المثابرة ليست مجرّد صفةٍ نزيِّن بها الكلمات، هي الوقود الّذي يبقي الأمل مشتعلاً حين ينطفئ كلّ شيء.

والإصرار ليس عناداً أعمى، هو وعيٌ بأنّ الإنسان خُلق ليحاول، وأنّ الفشل لا يُهزم إلّا بخطوةٍ جديدة.

في الغربة، يصبح الحلم رسالة حياة، والمثابرة عبادةً يوميّة، والإصرار وعداً بينك وبين نفسك ألّا تنكسر مهما تكسّر كلّ ما حولك.

فمن استطاع أن يزرع الحلم في أرضٍ بعيدة، بلا معدّاتٍ ولا عون، فقد أدرك جوهر الوجود الإنسانيّ:

أنّ القوّة الحقيقيّة لا تُستمدّ ممّا نملك، بل ممّا نحن عليه حين لا نملك شيئاً.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

آخر فيديوهات القناة