أصحاب الإرادة… نعمة تضيء حياتك وسط العتمة

في مسيرة الحياة، نصادف صنفين من الناس: منكسرٌ يرى في كل جرحٍ خيبة، وفي كل معاناةٍ إحباطًا متجدِّدًا؛ وكأن الأيام سلسلة هزائم لا تنتهي. وآخرُ ذو إرادةٍ يدرك أن الشكوى وحدها لا تغيّر من الواقع شيئًا، وأن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء مهما تمنَّينا.
الفرق بين الاثنين ليس في حجم ما يواجهانه من ابتلاء أو قسوة، بل في زاوية النظر: الأول يقف عند الألم كأنه النهاية، بينما يتعامل الثاني معه كبداية لتجربة جديدة تُصقِل وعيه وتزيد من صلابته.
وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تُصغِّرن همتك، فإني لم أرَ أقعدَ بالرجل من سقوط همته.” فالهمّة هي الفارق الجوهري بين من يستسلم وبين من يواصل المسير.
الجلوس مع أصحاب الإرادة كنز لا يُقدَّر بثمن. فهم لا يملكون عصًا سحرية تغيّر الأوضاع، لكنهم يمتلكون بصيرة نافذة ورؤية متجددة. يواجهون الواقع كما هو، لا ينكرون قسوته، لكنهم يبحثون عن بصيص النور مهما كان النفق مظلمًا وطويلًا.
في صحبتهم تتعلّم كيف تكون واقعيًا من دون أن تنكسر، وكيف تقترب من الأمل من دون أن تنخدع بالأوهام. إنهم يضعون أمامك صورة دقيقة للواقع، لكنهم يذكّرونك دائمًا أن الغد أقرب مما تظن، وأنه أجمل مهما اشتدّت المحن. وقد لخّص فيكتور فرانكل، الناجي من أهوال النازية وصاحب نظرية “البحث عن المعنى”، هذا المعنى بقوله: “من يملك سببًا للعيش يمكنه أن يتحمّل أي شيء.”
بين الاستسلام والفعل
الاستسلام للإحباط يكرّس العجز، بينما تحويل التجارب القاسية إلى فرصة للتغيير هو جوهر الإرادة. هنا تكمن التربية الحقيقية للنفس: أن نُدرّب أنفسنا على التعامل مع الأزمات لا كمصائب نهائية، بل كمحطات تكشف لنا قدرات لم نكن نعلم بوجودها.
وقد عبّر مصطفى صادق الرافعي عن هذه الفكرة بأسلوبه البليغ حين قال: “إذا لم تزد شيئًا على الحياة كنتَ أنت زائدًا عليها.” فالحياة لا تحتمل الوقوف في مكان واحد، بل تتطلب إضافة وبصمة، مهما صغرت.
إن رُزقت بصحبة صاحب إرادة حقيقي فتمسّك به؛ فوجوده في حياتك نعمة، يمنحك الأمل العقلاني لا الأوهام، ويقودك إلى أن تفكّر في المستقبل بعينٍ ترى الألم لكنها لا تستسلم له.
هؤلاء الأشخاص يذكّرونك أن الإرادة لا تعني إنكار الخوف أو الألم، بل تحويلهما إلى وقود للتغيير. وقد قال غاندي: “القوة لا تأتي من القدرة الجسدية، بل من إرادة لا تُقهَر.”، وهي إرادة لا يملكها إلا من تمرّس بالصبر والإيمان العميق بالمعنى.
دروس من التاريخ والواقع
التاريخ البشري مليء بأمثلة أصحاب الإرادة الذين لم تمنعهم الجراح من صناعة الفجر الجديد. وقد حذّر عبد الرحمن الكواكبي من الوجه الآخر حين قال: “الاستسلام للظلم يميت القلب، والحرية هي روح الإنسان.” فالمستسلم لا يخسر معركته فحسب، بل يخسر ذاته وحياته.
إن إرادة الإنسان ليست رفاهية فكرية، بل هي خط الدفاع الأول عن وجوده وكرامته. ولهذا فإن أصحاب الإرادة، بوعيهم وبصيرتهم، يمثلون مدارس مفتوحة لكل من حولهم؛ يعلّمونك كيف تحوّل الألم إلى بصيرة، والخيبة إلى حافز جديد.
الحياة ستبقى تحمل جراحًا ومنعطفات صعبة، لكن الفارق يصنعه الإنسان نفسه: هل يراها قيدًا يشلّ حركته، أم وقودًا يشعل عزيمته؟
إن صحبة أصحاب الإرادة ليست مجرّد ترفٍ نفسي، بل ضرورة حياتية؛ فهم النور الذي يضيء وسط العتمة، والمرايا التي تعكس لك حقيقتك بلا تزييف، والبوصلة التي تعيدك إلى الطريق حين تتوه.
ولعل ما قاله نيلسون مانديلا يلخص المعنى بدقة: “الشجاعة ليست غياب الخوف، بل هي الانتصار عليه.” وهذا بالضبط ما يمنحه لك أصحاب الإرادة حين ترافقهم؛ لا يلغون الخوف ولا الألم، لكنهم يعلّمونك كيف تنتصر عليهما لتواصل الطريق بثقة وأمل.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇