هل نحن جالية عربية أم عرب بريطانيا.. وما الفرق؟
أكتب هذا المقال من باب الحرص على الدقة في استخدام الكلمات، لا للجدل، ومن وجهة نظري، من المهم أن تعكس مفرداتنا واقعنا وهويتنا الحقيقية، لا مجرد عبارات نرددها دون تفكير. فالمصطلحات، فيما أعتقد، تصنع الوعي، والوعي يصنع السلوك، وما نختاره من لغة قد يؤثر في الطريقة التي نرى بها أنفسنا وكيف يرانا الآخرون، وربما في كيفية تعاملنا مع المجتمع الذي نعيش فيه.
حين نستخدم وصف “الجالية العربية” في بريطانيا، أرى أن ذلك يستحضر صورة تقليدية: مجموعة وافدة، ضيفة، موجودة مؤقتًا، قد تعود إلى وطنها حين تتهيأ الظروف. وربما كان هذا الوصف قريبًا من واقع القادمين العرب قبل أربعين أو خمسين عامًا، عندما كان الوجود العربي محدودًا، مؤقتًا، وغير مستقر نسبيًا، وكان الهدف الأساسي هو العمل أو الدراسة مع نية العودة. لكن، فيما أعتقد، هذا لم يعد يعكس واقعنا المعاصر، إذ تغيّر المشهد تمامًا، وتحول الوجود العربي من حضور عابر إلى وجود متجذر يمتلك امتدادًا اجتماعيًا وتعليميًا ومهنيًا واسعًا، ويؤثر في مختلف مجالات الحياة العامة في بريطانيا.
الواقع اليوم، من وجهة نظري، يوضح أن وجودنا هنا ليس عابرًا أو مؤقتًا. نحن نعيش ونعمل ونتعلم ونشارك وننتخب ونؤثر، ونرى أبناءنا يكبرون في هذا البلد الذي ينتمون إليه ويعيشون فيه، دون أن يفقدوا جذورهم العربية أو انتماءهم القومي. بهذا المعنى، أرى أننا عرب بريطانيا: أقلية ثقافية لها لغتها وخصوصيتها، لكنها جزء أصيل من النسيج الاجتماعي، وليس مجرد ضيوف على هامشه. هذا الوجود المتجذر، فيما أعتقد، يفرض علينا فهم مكانتنا بوضوح، والمشاركة في الحياة العامة بوعي ومسؤولية، وربّي الأجيال القادمة على إدراك حقوقهم وواجباتهم تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه.
أرى أن التمسك بمصطلح “جالية” في هذا السياق قد يرسخ صورة غير دقيقة، وكأن علاقتنا بالمجتمع مؤقتة أو سطحية. بينما رؤية أنفسنا كمكوّن من مكوّنات المجتمع تمنحنا الثقة، وتمكّننا من المطالبة بحقوقنا والتحرك بمسؤولية تتناسب مع حجم وجودنا وتأثيرنا. كما قد تساعد هذه الرؤية على تعزيز الاعتراف بدورنا الثقافي والاقتصادي والاجتماعي في المجتمع البريطاني، بعيدًا عن شعور الانعزال أو التهميش.
ويجدر التنويه هنا، من وجهة نظري، إلى نقطة دقيقة في اللغة الإنجليزية: إذا كتب الإعلام “Arab community in the UK” بدون أي سياق، قد يفهم القارئ هذه العبارة على أنها تشير إلى جالية مؤقتة أو وافدة. أما إذا أُضيف السياق ووُصفت المجموعة بـ “Arab British community”، فيمكن أن يعطي معنى الاستقرار، الاندماج، والفاعلية، ويصوّر المجموعة كمكوّن أصيل من النسيج الاجتماعي، وليس مجرد جالية عابرة. أي أن الاختلاف ليس في المصطلح ذاته، بل في الطريقة التي يُقدّم بها وفي السياق الذي يُستخدم فيه.
في المقابل، فيما أعتقد، يبقى وصف “الجالية الفلسطينية” دقيقًا ومقصودًا. فالفلسطيني خارج وطنه لا يعيش حالة اختيار، بل واقعًا فرضه الاحتلال. وجوده في المنفى ليس استقرارًا نهائيًا، ولا بديلًا عن وطنه، بل نتيجة حرمانه من العودة إليه. لذا، في رأيي، يحمل هذا المصطلح معنى سياسيًا ووطنيًا واضحًا: هناك أرض محتلة، وشعبٌ مُبعثر ينتظر التحرر، وحق عودة ثابت. استخدام كلمة “جالية” هنا يحافظ على معنى القضية، ولا يعبّر عن استقرار دائم في بلد آخر.
الفارق بين المصطلحين، من وجهة نظري، ليس مجرد تفصيل لغوي، بل يتعلق بالموقع، والانتماء، والرؤية، وبطريقة فهمنا لدورنا في المجتمع المحيط بنا. حين نسمّي أنفسنا “عرب بريطانيا”، أرى أننا نؤكد مكاننا داخل المجتمع، ونربّي أبناءنا على الوعي بدورهم ومسؤولياتهم، وأنهم ليسوا زوارًا بل أصحاب حضور وحق، مع احترام جذورهم وهويتهم القومية. وعندما نصف الفلسطينيين بـ”الجالية الفلسطينية”، نثبت معنى سياسيًا لا يجوز التفريط فيه، مع الإقرار بأن كل مجتمع له خصوصيته وسياقه التاريخي والسياسي.
أكتب هذا المقال، فيما أعتقد، للتأكيد على أهمية الدقة، ولإثارة وعي قد يختلط فيه المؤقت بالراسخ، ولتشجيع الجميع على تسمية الأشياء بما هي عليه. الكلمات ليست مجرد كلمات، بل رؤية لوجودنا، وللمستقبل الذي نريده لأنفسنا ولأبنائنا، ولتأكيد أننا جزء أصيل من النسيج البريطاني دون أن نتخلى عن هويتنا العربية والقومية. أدعو القراء إلى النظر في هذا النقاش بعقل مفتوح، ومشاركة آرائهم وتجاربهم، ومناقشة ما طرحته: هل يتفقون معي بهذا التمييز بين “الجالية العربية” و”عرب بريطانيا” أم لديهم رؤية مختلفة؟ أرى أن الحوار المشترك، سواء بالاتفاق أو الخلاف، هو السبيل لفهم أفضل، ولإيجاد رؤية جماعية متوازنة تعكس استقرارنا وانتماءنا ومسؤوليتنا تجاه المجتمع الذي نعيش فيه.
اقرأ أيضًا:
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇



