العرب في بريطانيا | من رومانسية المطر في العالم إلى وجع الخيام

1447 جمادى الثانية 23 | 14 ديسمبر 2025

من رومانسية المطر في العالم إلى وجع الخيام

من رومانسية المطر في العالم إلى وجع الخيام
ريم العتيبي December 11, 2025

في مشهد من وراء نافذة دافئة في مدينة لندن يجلس مسنّ وقد أمسك بيدَيه كوبًا من الشاي الساخن، وتجلس زوجته بجانبه تبتسم له وتنظر إلى المطر، وتستذكر الأيام الخوالي التي كانت تصحب فيها أطفالهما إلى المدرسة في أجواء المطر الجميلة.

تقول لزوجها: أتذكر كيف كنا نسير تحت المظلات؟ كنا نركض ونضحك مع أطفالنا… كان المطر يُعيد إليهما أصوات الخطوات الصغيرة لأبنائهما.

ذكريات شديدة الروعة

وعلى الضفة الأخرى من العالم هناك طفلة مفعمة بالنشاط تقفز بخفة وحيوية حول والدتها، وتطلب أن تشاركها في صناعة الحلوى التي تحب، وتقول بكل براءة: أمي أمي: هذا الجو الجميل يستدعي صنع حلوى لذيذة لنأكلها ونحن نشاهد التلفاز مع أبي.

وفي شارع من شوارع بلد آمن في هذا الكون يمسك أخ كبير مظلته، ويمدها نحو أخيه الصغير وهما متجهان لحضور احتفال لتكريم فريق كرة القدم الذي يلعب فيه الفتى الصغير، ويركض خلفهما صديقان يُخططان لالتقاط الصور.

حين يشتد المطر يخرج الحي كله لاستقباله وسط ضحكات وصرخات ولعب. أطفال يركضون ويضحكون، ثم يعودون مسرعين إلى بيوتهم يشربون الحساء الدافئ، ويرتدون ثيابًا جافة بدل تلك التى بلّلها المطر.

هكذا يبدو المطر في أغلب مدن العالم

فصل من حرارة المشاعر الإنسانية، ومشاهد من الرومانسية وقصائد الحب التي تجمع العائلة حول رائحة الطعام وشريط الذكريات.

لكن ليس كل المطر يُنشد قصائد حب؛ فمنه الذي يعزف موسيقى حزينة كذلك.

على الضفة الأخرى من هذا العالم في رقعة صغيرة اسمها غزة لا يطرق المطر النوافذ، بل يقتحم القلوب.

هنا حين يشتد المطر لا يخرج الأطفال للعب والتقاط الصور، بل يخرجون فرارًا من المياه التي دخلت عليهم فقضّت مضاجعهم، ولا تعود العائلات لشرب الحساء الدافئ، بل يسارعون في محاولات يائسة إلى رفع الأغطية المبللة قبل أن تلتصق بالوحل.

هناك في غزة لا تُشغّل المدافئ بل تغرق الخيام. لا وجود لطفولة حالمة ما دام الجميع متفقًا على الخذلان، كيف لا ونحن نسمع عشرات القصص المؤلمة -بل الآلاف- ونحن صُمٌّ بُكم عُمي؟!

في إحدى الليالى تسلّل المطر إلى خيمة صغيرة مهترئة، بدأ يتسرب نقطة نقطة، يسيل من ثقب في أعلى الخيمة، فصارت الأرض تفيض بالماء، وبدأت الخيمة تغرق ببطء وفيها طفلة تشبه الملاك، لا تعرف لماذا ترتجف: أترتجف بردًا أم خوفًا!

كانت أمها تجمع الأواني بسرعة لتضعها تحت ثقوب الخيمة التي تنهال منها المياه، وتسمع صوتًا يرتفع ويتسارع في وقت تزداد الأجواء فيه برودة وأصحاب الخيمة يحبسون أنفاسهم، وأعينهم تتساءل: هل ستسقط الخيمة على رؤوسهم ومتى سيحدث هذا؟!

في خيمة أخرى حاول أب أن يرفع فراشًا غارقًا بالماء، فكان كلما يرفع طرفًا من الفراش يهبط الآخر كجسد ميت.

كان المطر يتصرف على سجيته وأريحيته، ولكنه لم يكن يدري أن العالم خذلهم وتركهم يسكنون الخيام المهترئة وسط هذا البرد الشديد القارس. لم يكن المطر هو الذي يقسو عليهم، بل نحن، أجل نحن من خذلناهم أثناء الحرب وخذلناهم في مواسم البركة الربانية.

خذلناهم حين اشتد القصف عليهم ونسيناهم في ذروة البرد، كان المطر يهطل كعادته وينهال عليهم ظانًّا أننا بنينا لهم المساكن المؤقتة، وأننا باشرنا إعادة الإعمار وأمّنّاهم في بيوت بعد سنتين من التعب والإرهاق!

لم يكن يعلم بأننا بتنا بقلوب لا تعرف الرحمة، لقد جرف المطر أحلام الأطفال، جرف ما جمعوه من ألعاب عثروا عليها بصعوبة تحت ركام بيوتهم. مطر جرف دفاترهم وأقلامهم.

المطر ذاته أيها الناس ينزل من الغيوم نفسها ومن السماء نفسها. المطر نفسه الذي منح لتلك الطفلة في بقعة من العالم الحلوى التي تحب هو المطر نفسه الذي سرق من طفلة أخرى آخر ما تبقى من ألعابها.

المطر نفسه الذي جعل الأخ الكبير يمشي محتضنًا أخاه ليحميه هو نفسه الذي جعل والد الطفل الآخر يعجز عن انتشال الفراش الغارق بالمياه.

هو المطر نفسه الذي أعاد ذكريات الحنين لزوجين

استرجعا ذكريات رحلة الذهاب إلى المدرسة مع أطفالهما، وهو الذي جرف الدفاتر والأقلام.

عن أي مرحلة مأساوية وظالمة في هذا العالم نتحدث؟!

بين نافذة محكمة الإغلاق وخيمة مفتوحة وممزقة في العراء، بين مدينة تغني للمطر ومدينة يُغرقها المطر تتجلى حكاية العالم في أكثر صور الإنسانية بشاعة وقسوة. السماء واحدة لكن الأرض ليست كذلك وهكذا تبدأ الحكاية…

حكاية الغيم حين يمرّ فوق مدنٍ فتكتب له قصائد من ذكريات الحب والرومانسية، وفوق غزة فيتحوّل إلى فصل جديد من البؤس. حكاية المطر الذي يصبح موسيقى في مدينة ويُمسي ألمًا ومأساة في أخرى.

وحكاية بشرٍ يحاولون -رغم كل شيء- أن يعيشوا

فصلًا يشبه الحياة… في عالم الأموات تحت

خيمة تُغرقها السماء.

نعلم بأنهم سيُجزَون الجنة ويُعوَّضون بنعيم الآخرة، ولكن ماذا عنا…؟ لقد خذلناهم أثناء الحرب وفي الشتاء.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

آخر فيديوهات القناة