العرب في بريطانيا | الإنسانية أولًا قبل كل الحسابات

1447 جمادى الثانية 26 | 17 ديسمبر 2025

الإنسانية أولًا قبل كل الحسابات

Artboard 2 copy 4@1x_1-1
أميرة عليان تبلو December 16, 2025

تتكاثر الشّعارات في هذا الزّمن، وتعلو فيه الأصوات المتصارعة باسم السّياسة، والدّين، والهويّة، والسّلطة، تبدو الإنسانيّة كأنّها القيمة الوحيدة الّتي تتآكل بصمت. ومع ذلك، تبقى الإنسانيّة هي الجوهر الّذي لا يجوز التّفريط به، لأنّ كلّ ما يُبنى خارجها يتحوّل عاجلاً أم آجلاً إلى أداة قمعٍ أو سبب دمار.

الإنسانيّة ممارسةٌ يوميّةٌ تبدأ من أبسط التّفاصيل: في نظرتنا إلى الآخر، في لغتنا، في قدرتنا على التّعاطف، وفي استعدادنا لأن نضع أنفسنا مكان غيرنا ولو للحظة. الإنسانيّة أن ترى الإنسان قبل انتمائه، وألمه قبل موقفه، وحاجته قبل حكمك عليه.

لقد علّمتنا الحروب، والنّزوح، والفقد، أنّ كلّ ما نملكه قابل للزوال، وأنّ الإنسان قد يُسلب بيته، ووطنه، وحتّى جسده، لكنّه إن خسر إنسانيّته خسر كلّ شيء. فكم من أنظمةٍ امتلكت السّلاح، والمال، والإعلام، لكنّها سقطت لأنّها فرّطت بإنسانها؟ وكم من شعوبٍ صمدت رغم الجراح لأنّها تشبّثت بالقيم الإنسانيّة كآخر خطّ دفاع عن كرامتها؟

الإنسانيّة لا تعني الضّعف كما يظنّ البعض، هي أعلى درجات القوّة الأخلاقيّة. أن تختار الرّحمة في زمن القسوة، وأن تقول كلمة حقّ في وجه الظّلم، وأن تمتنع عن الأذى حين تكون قادراً عليه، فذلك يحتاج إلى شجاعةٍ أكبر من شجاعة البطش. الإنسان الحقيقيّ ليس من ينتصر على الآخرين، إنّما من ينتصر على نزعاته المظلمة.

وفي عالمٍ تسوده المصالح، تصبح الإنسانيّة فعل مقاومة. مقاومة لتحويل البشر إلى أرقام، أو أدوات، أو خسائر جانبيّة. مقاومة للتّطبيع مع الألم، ولتبلّد المشاعر أمام صور الموت اليوميّ. فالاعتياد على القسوة أخطر من القسوة نفسها، لأنّه يقتل الضّمير ببطء.

قد قيل أنّ إعادة إعمار الإنسان تسبق إعادة إعمار الحجر، لأنّ المدن لا تُبنى بالإسمنت وحده، وإنّما بالقيم الّتي تحكم العلاقات بين النّاس، فمجتمعٌ بلا إنسانيّة، مهما بلغ من التّقدّم، هو مجتمعٌ هشٌّ من الدّاخل، قابلٌ للانفجار عند أوّل اختبارٍ أخلاقيٍّ.

في النّهاية، قد نختلف في الآراء، والعقائد، والانتماءات، لكنّنا نتشابه في الألم، والخوف، والحلم، والحاجة إلى الأمان. ولهذا، تبقى الإنسانيّة أهمّ من كلّ شيء، لأنّها الوصل الأخير الّذي إن انهار، سقط الإنسان ومعه كلّ ما ادّعى الدّفاع عنه.

ولهذا، فإنّ التمسّك بالإنسانيّة هو مسؤوليّةٌ يوميّةٌ نعم، وتُختبر في المواقف الصّغيرة قبل الكبيرة. تُختبر حين نُخاطب المختلف معنا، حين نُنصف المظلوم ولو خالفنا، وحين نرفض أن نكون شهود زورٍ على الألم، أو شركاء صامتين في الظّلم. فالصّمت عن انتهاك الإنسانيّة هو شكلٌ من أشكال التّواطؤ، مهما حاولنا تبريره.

إنّ أخطر ما قد يصيب المجتمعات ليس الفقر ولا الهزيمة، إنّما فرض هدنةٍ بينها وبين القسوة، واعتيادها على إقصاء الآخر وتجريده من آدميّته. حينها، يصبح الظّلم مشهداً عاديّاً، ويغدو القتل خبراً عابراً، ويتحوّل الإنسان إلى رقمٍ في نشرةٍ إخباريّة. عند هذه المرحلة، لا تنهار الأوطان فجأة، تتآكل من الدّاخل، قطعةً قطعة، روحاً بعد روح.

إنسانيّتنا هي البوصلة الأخيرة الّتي إن ضاعت، ضاعت معها كلّ الادّعاءات النّبيلة. هي الامتحان الحقيقيّ لكلّ فكرة، ولكلّ سلطة، ولكلّ خطاب. فما لا يحفظ كرامة الإنسان، ولا يصون حياته وحقّه في الوجود، لا يستحقّ أن يُدافع عنه.

وفي هذا الزمن الّذي يكثر فيه الخراب، تبقى الإنسانيّة فعل نجاة، وطريق خلاص، وأملاً وحيداً لإنقاذ ما تبقّى من هذا العالم!

ولعلّ ما يحتاجه هذا العالم المنهك اليوم وقفة صادقة مع الذات، يُعيد فيها الإنسان تعريف موقعه من الآخر، ومن الألم، ومن الحقيقة. فالإنسانيّة امتحانٌ قاسيٌ يظهر في لحظات الانكسار، حين يكون الانحياز للحقّ مكلفاً، والعدل وحيداً، والرّحمة محاصرة.

إنّ أخطر ما قد نصل إليه، هو أن نفقد قدرتنا على الدّهشة أمام الظّلم، وأن يصبح الألم مشهداً عاديّاً في يوميّاتنا، تُمرَّر صوره دون أن تُحرّك فينا سؤالاً أو وجعاً. حينها لا يكون الخراب خارجيّاً فقط، وإنّما داخليّاً أيضاً، يبدأ بتآكل الضّمير، وينتهي بتبرير ما لا يُبرَّر، والصّمت عمّا لا يجوز الصّمت عنه. فالإنسانيّة تموت أوّلاً في القلوب، قبل أن تنهار في الشّوارع والسّياسات.

ولأنّ الإنسان هو الغاية لا الوسيلة، فإنّ كلّ فكرةٍ، أو نظامٍ، أو خطابٍ، لا يضع كرامته في صدارة أولويّاته، هو مشروع فشلٍ مؤجّل، مهما طال عمره. فالتّاريخ لم يحفظ أسماء الأقوياء لأنّهم أقوياء، بل لأنّهم إمّا صانوا الإنسان، أو انتهكوه؛ ولم تخلّد الشّعوب ذاكرتها بالقوّة، خلّدت بالقيم الّتي دفعت ثمنها من لحمها ودمها، ثمّ تمسّكت بها كي لا تفقد ذاتها.

إنّ الإنسانيّة فعل مقاومة يوميّ، وموقف أخلاقيّ يتكرّر في تفاصيل الحياة الصغيرة قبل القرارات الكبرى: في كلمةٍ لا تُقال، وفي حكمٍ نؤجّله، وفي يدٍ نمدّها بدل أن نغلقها. هي شجاعة أن تبقى إنساناً في زمنٍ يُكافئ القسوة، وأن تحمي نقاءك الدّاخليّ دون أن تنعزل عن وجع العالم.

وفي نهاية المطاف، لن يُسأل الإنسان عمّا امتلكه، ولا عمّن غلبه، إنّما عمّا أبقاه حيّاً في داخله حين كان كلّ شيء يدفعه إلى التّوحّش. فالإنسانيّة طوق النّجاة الأخير للمجتمعات، والحدّ الأدنى الّذي إن تخلّينا عنه، سقطنا في فراغٍ أخلاقيّ لا قاع له.

لهذا، تبقى الإنسانيّة أهمّ من كلّ شيء… لأنّها آخر ما يجعل هذا العالم قابلاً للعيش، وآخر ما يُنقذ الإنسان من أن يتحوّل إلى ظلٍّ بلا روح، أو رقمٍ بلا معنى، أو قوّةٍ بلا ضمير.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

آخر فيديوهات القناة