بين دمنا ودم غزة: لماذا لا يكفي التعاطف وحده؟

بين من يروون الأرض بدمائهم دفاعًا عن الحق، ومن تجفّ عروقهم خوفًا أو تواطؤًا، تُكتب رواية الشرف والخذلان. غزة لا تحتاج إلى دموعنا… بل أن نكون معها، فعلًا لا قولًا.
في زمنٍ اختلطت فيه القيم، وضاعت فيه البوصلة، تظلّ دماء الشهداء الطاهرة هي النور الذي يكشف الزيف، ويُفرّق بين من باع ومن ضحّى، بين من صمت خوفًا أو طمعًا، وبين من قدّم روحه فداءً لأرضه وأهله.
في غزّة، تسيل الدماء كلّ يوم، لا عبثًا، ولا طلبًا لسلطة، بل دفاعًا عن الحق، وعن عِرضٍ مُستباح، وعن طفلٍ يحلم بلعبة، وامرأةٍ تنتظر غائبًا لن يعود. هناك، لا وقت للبكاء، بل كل لحظة تُستثمر في الثبات، في البناء تحت القصف، وفي صناعة المجد من بين الركام.
دماء غزّة طاهرة؛ لأنها دماء من آمن بأن الوطن ليس قطعة أرض فقط، بل قضية يعيش من أجلها، ويُقتل دونها.
قال الله تعالى:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}
[آل عمران: 169]
هؤلاء ما ماتوا، بل ارتقوا. وما نُسوا، بل كُتبوا في سجلّ الخالدين.
قال رسول الله ﷺ:
“ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيُقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة.”
[صحيح البخاري]
أما هناك، حيث الخذلان، حيث العواصم المضيئة بأموال الغاز والنفط، حيث تُعقد الصفقات في وضح النهار، وتُرسل رسائل العزاء الخجولة ليلًا، فثمّة دمٌ آخر… دمٌ لا يسيل، بل يتجلّط في العروق. دمٌ خجول، لا يغلي، ولا يغضب، ولا يتحرّك. دمٌ صار ماءً. ومن لم يعد عنده دم، لا يُنتظر منه فعل.
شتّان بين من أفرغ دمه ليملأ قلوب أمّته بالعزّة، وبين من احتفظ بدمه ليملأ جيبه ويُبرّر صمته.
قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ}
[النساء: 97]
الأوّل، نزف من أجل الحياة، فصار اسمه يُذكر في دعاء الأمهات، ودمه يروي تراب الأرض التي أحبّها، وسيرته عطرًا في وجدان الأمّة.
أما الثاني، فقد باع صوته وصمته، وضلّ الطريق، ثم عاد يتفرّج على المذبحة وكأنّها فيلم آخر في نشرة الأخبار.
الفرق بين الدمين ليس في المصدر فقط، بل في المعنى.
دمٌ ارتقى، فرفع شعبًا بأسره. ودمٌ انحطّ، فخذل أمّة بأسرها.
دمٌ طاهرٌ نقيّ، خرج من قلبٍ مؤمنٍ بقضيته، ودمٌ آسنٌ راكد، لم يخرج لأنه ببساطة لم يكن هناك قلبٌ حيّ.
في نهاية المطاف، من لم يُشارك في الميدان، فليُشارك على الأقلّ في الموقف، في الكلمة، في المقاطعة، في الدعاء، في التربية، في التهيئة لجيلٍ لا يقبل بالهوان.
أما أن تبقى على هامش الحياة، تُشاهد المذبحة كأنّها مشهد سينمائي، فهذا والله هو العار.
قال رسول الله ﷺ:
“من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.”
[رواه الطبراني]
غزّة لا تحتاج إلى دموعنا، بل إلى مواقفنا. لا تحتاج إلى شعاراتنا، بل أن نكون معها… حقًّا.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇