مأساة غزة.. قاسم مشترك بين نائبة بريطانية وطبيب فلسطيني
في إبريل الماضي، نُقلت النائبة البريطانية ليلى موران إلى المستشفى جراء إصابتها بتعفن الدم، فظنّ الأطباء في البداية أن المضادات الحيوية ستُزيل العدوى، غير أن الحاجة إلى التدخل الجراحي ظهرت سريعًا. خلال فترة التعافي، أبلغها أحد الجراحين أن الزائدة الدودية أُزيلت، فبادرته بالسؤال بعد أن عرّف بنفسه قائلة: “انتظر، من أين أنت؟”.
علاقة طبية تتجاوز الحدود
كان الطبيب محمد فلسطينيًّا مثلها، وقد نشأ في مخيم جباليا للاجئين في غزة. يعمل محمد جرّاحًا منذ عشرين عامًا في هيئة الخدمات الصحية الوطنية، في حين تُعد موران نائبة عن حزب الديمقراطيين الأحرار لدائرة أوكسفورد الغربية وأبينجدون. وأمضت موران أسبوعًا إضافيًّا في المستشفى، حيث تطورت بينهما علاقة وطيدة.
قالت موران: “كنا نخطط للقاء لتناول الطعام وإعداد الأطباق لبعضنا، كما يفعل الفلسطينيون حين يلتقي بعضهم بعضًا”.
إلا أن خططهما لم تكتمل، وسرعان ما وجد الاثنان رابطًا آخر أكثر مأساوية. يعيش والدا محمد المسنان وشقيقته، التي تتولى رعايتهما، في جباليا شمال غزة، وهي منطقة محاصرة اشتدت عليها الهجمات الإسرائيلية مؤخرًا.
ومنذ تصاعد الهجمات، قُتل مئات الفلسطينيين في المنطقة، من بينهم 93 قَضوا إثر ضربة جوية استهدفت مبنى سكنيًّا في بيت لاهيا صباح يوم الثلاثاء. في ظل هذا الحصار، تجوب الطائرات المسيّرة الشوارع، وتغدو الأجساد الممزقة مشهدًا مألوفًا في الطرقات. ولا يجرؤ السكان على أي شيء حتى على فتح نوافذ منازلهم؛ خشية التعرض لنيران القناصة. وتعاني والدة محمد من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم، في حين خضع والده لعملية استئصال للقولون، ما جعله في حالة من الضعف الشديد، وهو ما يجعل إجلاءهم مستحيلًا.
تجربة قاسية لعائلة موران
واجهت عائلة موران المسيحية الفلسطينية وضعًا مشابهًا أواخر العام الماضي، عندما حوصرت عائلتها داخل مجمع كنيسة العائلة المقدسة في غزة لأكثر من 60 يومًا. لم يكن بإمكانهم المغادرة في وقت أبكر؛ نظرًا لأن بعض أفراد العائلة كانوا من كبار السن، ما أسفر عن وفاة أحدهم لعدم تمكنه من الوصول إلى المستشفى. قُتلت امرأتان لجأتا إلى الكنيسة برصاص القوات الإسرائيلية عند خروجهما للبحث عن المساعدة، ما استدعى إدانة من البابا فرنسيس، حيث أعرب عن أسفه لقتل “المرضى وذوي الإعاقة” الذين احتموا بالكنيسة.
لاحقًا استطاعت عائلة موران شق طريقها خارج غزة في رحلة شاقة. وتصف موران معاناة عائلة محمد قائلة: “ما تمر به عائلة محمد هو جحيم على الأرض. عائلتي كانت محمية لا بجدران الكنيسة فقط، بل بالدعم الدولي أيضًا، حيث تدخّل البابا لحمايتهم عند تعرض الكنيسة للنيران الإسرائيلية”.
وأضافت: “في جباليا، لا يوجد صوت لعائلة محمد كما كان لدينا وللعائلات المسيحية في الكنيسة”.
ويخشى محمد ألا يتمكن والداه من النجاة، وبخاصة بعد أن قُتلت عمته وابن عمه الأسبوع الماضي جراء غارة إسرائيلية على جباليا، حيث بقيت شقيقته وحيدة في شارعها. وقبل أسبوعين، سُوّيت الدار المجاورة بالأرض، فأبلغ أخته قائلًا: “قد يكون منزلك التالي”. فأجابته بمرارة: “إلى أين أذهب؟ لا يوجد مكان آمن”.
وفي ظل انقطاع الاتصالات، فإن الاتصال بأسرته يشكل مجرد لحظات من الراحة لا تلبث أن تتبدد، إذ يسمع عبر الهاتف أصوات القصف وإطلاق النار، فتغدو اللحظات ملأى بالرعب والترقب. ويضيف: “إنها لحظات انتظار للموت”.
قلق مستمر ومأساة دائمة
وبسبب الظروف المتدهورة بات والدا محمد غير قادرين على مغادرة منزلهما؛ خوفًا من التعرض لإطلاق النار. ويقول محمد: “هذه المرة، يبدو أن النية واضحة إما بقتل من هناك وإما بتهجيرهم. والداي لا يملكان أي خيار، وأختي ترى أن المنزل هو المكان الأكثر أمانًا”.
يضاف إلى هذا الخطر المباشر، أن نقص الأدوية يترك آثارًا مأساوية على صحة والديه، ويعلق محمد قائلًا: “لا ينجو المسنون والضعفاء في هذه الأوضاع؛ المستشفيات قد دُمرت والأدوية تكاد تكون معدومة. في مرحلة ما، لم يكن هناك أي دواء لوالدتي، وفقدت 30 كيلوغرامًا منذ بدء الحرب”.
وأردف قائلًا: “لا يتوفر لديهم طعام كافٍ، فغذاؤهم الأساسي هو الخبز وبعض الأغذية المعلبة التي تصل على شكل مساعدات”.
وأثارت موران قضية محمد في البرلمان في وقت سابق من هذا الشهر، وناشدت وزيرة التنمية، أنيليس دودز، بالضغط على الحكومة الإسرائيلية للتأكيد على أن محمدًا، وغيره من المرضى والمسنين ومقدمي الرعاية لهم، ليسوا أهدافًا مشروعة للحرب.
ووجه محمد رسالة للحكومة البريطانية قائلًا: “بذلت عشرين عامًا من حياتي لإنقاذ أرواح البريطانيين عبر عملي في هيئة الخدمات الصحية، وأنا فخور بذلك. لا تستخدموا أموال الضرائب لدعم حكومة ترتكب الإبادة الجماعية ضد شعبي”.
إقرأ أيّضا
الرابط المختصر هنا ⬇