العرب في بريطانيا | هل مات أبي؟.. مهاجر بين ظلال الاغتراب والوحدة

1446 ذو الحجة 19 | 16 يونيو 2025

هل مات أبي؟.. مهاجر بين ظلال الاغتراب والوحدة

مهاجر
عادل يوسف  June 16, 2025

خَطى أولى خطواته في نُزله الجديد، يتلمس الشوارع ويقرأ الناس، كثير من التوجس وكمٌّ هائل من أسئلة القاطنين الجُدد: أيوجد مسجد في الحي؟ هل ثمة من يبتاع الحلال هنا؟ ثم لماذا لا أرى غير البياض يكسو وجوه السائرين؟ أين القلّة الهائلة؟ أين هي الفئة المنكوبة؟… إلخ.

في الجانب المقابل من داره شمطاء ترمقه بنظرات مُريبة من شُرفة بيتها بينما تتظاهر بتجفيف الملابس التي غسلتها للتو، أدار بصره إلى الجانب الآخر، فإذا حسناء تحاول جاهدة إزاحة خُصلات شعرها لتتعرّف هُويةَ الوافد الجديد. بينما هو كذلك إذ طلع عليه رجل يتهادى بين العقدين السادس والسابع، كثّ اللحية، قريب المنكبين، بعيد الهمة عن الدنيا. الكل رماه بنظرة، إلا هذا لم يهتم بوجوده أصلًا، متكئًا على عُكازته ذات الأرجل الأربع، يحفو الخطو نحو دكان الحي القابع في أسفل التلة.

في اليوم التالي، وهو يطوف بالمنطقة محاولًا معرفة أقصر طرقها وأطولها لبيته، إذ بذات العجوز على ذات الهيئة، قميص أسود بالٍ قد التصق بجسده من كثرة الترداد، بنطال لا يُعرف له لون، ينتهي بحذاء واضحة عليه آلام الوجع، يحاول تغطية ذلك كله بجلباب قُرمزي يُجابه به صقيع ديسمبر.

مع توالي الأيام، المهاجر صاحب الوجه الغامق أصبح مألوفًا، العم توم يبادره بالتحية، جارته كرستينا تسأله عن حاله بعد أن كانت تكتفي بأنها على ما يرام، الأمهات لم يعدن يُمْسكن بأطفالهن إذا لمحن طيفه، والفتيات أصبحن يرجون له يومًا سعيدًا أيضًا. الكل تهاوى أمام الابتسامة المزيفة، إلا اللغز المحيّر: الشيخ صاحب العكاز والقميص المهترئ. لم تُفلح أيٌّ من المحاولات المصطنعة أو الحقيقية، وكأن الزمن قد توقّف من تلك اللحظة، هي ذاتها الخُطوات الثقيلة، هو ذاته الطريق الوعر ذهابًا وإيابًا، لا يأبه لوجوده أحد، ولا يقف عند بابه ساعي البريد، حتى سنجاب الحي لا يكترث بمروره ولا يُفسح له الطريق.

يُجسد الحالَ الكاتبُ الأمريكي إيدث وارتون:

يعيشون واقعًا مشفرًا برموز تستعصي على الفهم، حيث لا أحد يبوح بحقيقة أحاسيسه، ولا يتصرف وفقًا لها، ولا يفكر بها حتى، بل تظهر عن طريق مجموعة من الرموز الاعتباطية.

أقسى أنواع الوحدة هي شعورك بالعُزلة وسط الحشود، أن ينتهي بك المطاف مع أناس يجعلونك تغترب عن ذاتك، أن يتساوى عندك مفهوم الوجود والفناء. في ظني أن أعمق بُقعة في الجحيم، هم سكانها الذين لم يبتعدوا عن الآخرين ولم يقترب منهم أحد. كما عبّر عنها نيتشه بقوله:

أصبحت صامتًا لأنه لا أحد منهم يستطيع فهم حديثي، إنه لأمر رهيب أن تلتزم الصمت مع أن لديك الكثير لتقوله، عدم المقدرة على تبادل أفكاري مع الآخرين أسوأ أنواع الوحدة على الإطلاق.

يضيف نيتشه:

الاختلاف عن الآخرين أغلظ وأفظع قناع حديدي يمكن للفرد أن ينعزل بداخله.

وللفيلسوف الألماني بول تيليش عبارة نحيفة المبنى، متينة المعنى، إذ يقول:

اللغة ابتكرت كلمة “وحدة” لوصف ألم أن تكون وحيدًا، وابتكرت كلمة “عزلة” لوصف شرف أن تكون وحيدًا.

في المساء، أدار التلفاز على نشرة الأخبار، فريق بحثي أعدّ تقريرًا عن الوجه الآخر للحياة في الغرب، عن المعزولين، والمهمشين، الذين لا يكترث بأعياد ميلادهم أحد. في كل زاوية يوجد إنسان بعكاز وقميص مهترئ، الكثير من القصص المأساوية، والكثير الكثير من الحكايات التي لم يُكتب لها النهاية بعد.

“عليّ أن أفعل شيئًا في الغد، يجب وضع حد لهذا الهُراء، غدًا يومٌ مشهود”، قالها وهو يكفكف دمعة وجدت طريقها بينما ينظر عبر النافذة نحو جاره الثامن، المعروف بأنه آخر منزل في الحي يُعلن انتهاء اليوم وأول دار تفتح أبوابها لاستقبال اليوم الجديد.

في الصباح، استيقظ باكرًا على غير عادته، أعدّ فطوره بحماسة شديدة، الشطائر المحمصة الممزوجة بشرائح الجبن وعبق الزُبدة.

“ليكن صباحًا… أظن أنها ستمطر اليوم، أليس كذلك؟!”، يتدرب على الكلمات التي سيلقيها على مسامع جاره، وهو يقلّب مكعبات السكر في الشاي الإنجليزي.

ألقى نظرة نحو النافذة يترقب خروج العجوز، لكن المفاجأة: حشدٌ من البشر قد التفوا حول المنزل. هرع مسرعًا نحو الخارج ليتأكد بنفسه. نعم، هو ذاته رقم (47). ما الخطب اليوم؟ أهو عيد ميلاده الثمانون؟ أم أن حفيده قد اجتاز اختبار القيادة؟… إلخ.

تقدّم قليلًا في محاولة بائسة للفت الأنظار، الجميع منهمك، وكأن عدم الاكتراث صفة مشتركة لكل من يقيم في هذا البيت.

أحدهم من الداخل أدار مقبض الباب، وقف على أطراف أصابعه يسترق النظر، لكن الدهشة هذه المرة لم يكن العجوز هو من خرج، بل رجل بزيٍّ عسكري تفوّه بلكنة إنكليزية سريعة وعسيرة الفهم.

في خضم الحيرة والتساؤلات، انبعث صراخ من الخلف، الجميع التفت نحوه، إذ بشاب أشقر، بلباس أنيق ووجه مكفهر، تُسابقه دمعة مصطنعة تُناسب الموقف:

“لا، لا، بربكم… ماذا حدث؟… هل مات أبي؟!”.


اقرأ أيضًا:

اترك تعليقا

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

loader-image
london
London, GB
6:25 pm, Jun 16, 2025
temperature icon 26°C
few clouds
44 %
1026 mb
9 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 12%
Visibility 10 km
Sunrise 4:42 am
Sunset 9:19 pm