لندن ليست جحيمًا… كفى مبالغة وتهويلًا!
كفى تهويلًا… وكفى تخويفًا للناس باسم “الواقعية”. لندن ليست مدينة فاضلة، نعم، لكنها أيضًا ليست جحيمًا كما تصفها بعض منشورات مواقع التواصل، وكأن من يدخلها لا يخرج حيًّا، ومن يسكنها يعيش مطاردًا بين سكين وسرقة ومخدرات وقتل كل ساعة. قليلًا من الإنصاف… يرحمكم الله.
في كل يوم نقرأ على “فيسبوك” و”واتساب”:
“أكثر من 20 جريمة قتل يوميًّا في بريطانيا”
“أكثر من ألف سرقة في اليوم”
“ملايين المشاجرات”
“الاغتصاب في كل زاوية”
“البلد الفلاني أكثر أمانًا من بريطانيا”
وتُطرح هذه الأرقام وكأنها قرآن منزل، لا يُسأل عن مصدرها، ولا عن صحتها، ولا عن سياقها، ولا عمّن اخترعها أصلًا.
الواقع أبسط وأهدأ وأعقل من كل هذا الصراخ.
نعم، في لندن جرائم.
نعم، فيها سرقات.
نعم، فيها مخدرات.
نعم، يقع فيها قتل أحيانًا.
لكنّ هذا ليس دليل انهيار، وإنما دليل على أنها مدينة كبيرة يعيش فيها أكثر من تسعة ملايين إنسان، من كل الجنسيات والديانات والثقافات. وهل توجد مدينة بهذا الحجم بلا مشكلات؟ أين هي؟ دلّونا عليها.
المشكلة ليست في توصيف الجريمة، بل في *المبالغة الكاسرة لحدود المنطق*. حين تقول إن في لندن “عشرين جريمة قتل يوميًّا”، فأنت تتحدث عن أكثر من سبعة آلاف قتيل في السنة! هذا رقم لا تقوله حتى دول في حروب مفتوحة. وعندما يقال “آلاف السرقات يوميًّا”، دون تحديد نوعها ولا سياقها ولا نسبتها إلى عدد السكان، يتحول الرقم إلى أداة ترهيب لا أداة وعي.
الفرق الحقيقي بين لندن وكثير من مدننا ليس أن الجريمة هناك أكثر، بل أن الجريمة في لندن *تُسجَّل، وتُعلَن، وتُناقَش، ويُحاسَب مرتكبوها*. لا تُخفى تحت السجاد، ولا تُدفن في دفاتر مغلقة، ولا تسكت العائلات خوفًا أو “تستّرًا”. الشفافية تُظهِر الأرقام، لكنها لا تصنع الجريمة.
أما المقارنة الشهيرة: “البلد الفلاني أكثر أمانًا من بريطانيا”، فهي مقارنة عاطفية أكثر منها علمية. الأمان ليس فقط ألا ترى سكينًا في الشارع، بل أن ترى:
قانونًا يعمل
قضاءً يحاسب
شرطةً لا تُفرّق بين فقير وغني
مستشفى يعالجك دون واسطة
ومدرسة توفّر تعليمًا بلا خوف.
في بلادنا قد لا ترى سرقة في وضح النهار، لكنك ترى خوفًا من الكلمة، وخوفًا من السؤال، وخوفًا من الشكوى، وخوفًا من المجهول الاقتصادي. هذا أيضًا نوع من انعدام الأمان، لكننا اعتدناه حتى صار “طبيعيًّا”.
نعم، في لندن مشكلات صحية، واقتصادية، وأزمات غلاء، وضغط معيشة. هذا صحيح. لكن هل يعاني الناس فقط هناك؟ أم أن العالم كله يئنّ من تضخم، وبطالة، وضغط نفسي، وحروب، وأزمات طاقة وغذاء؟ لندن ليست جزيرة معزولة عن هذا الكوكب المنهك.
أما خطاب: “بريطانيا بُنيت على سرقة الشعوب وستنهار”، فهو خطاب سياسي مفهوم في نقد الاستعمار وتاريخه الأسود، لكنه لا يصلح ليكون توصيفًا أمنيًّا يوميًّا لحياة الناس في الشوارع. سقوط الدول لا يكون بالشتائم ولا بالمنشورات، بل بتراكمات اقتصادية وسياسية عميقة ومعقدة.
دعونا نكون صريحين مع أنفسنا:
كثير من هذا التهويل سببه الغضب، وخيبة الأمل، وتجارب فردية سيئة، أو صدمة مهاجر، أو قصة شخص تعرّض للسرقة، فتعمّمت القصة على مدينة كاملة. تجربة فرد لا تصنع صورة وطن.
لندن فيها أحياء صعبة، نعم.
وفيها كذلك أحياء هادئة وآمنة جدًّا.
فيها مناطق غالية وأخرى فقيرة.
فيها ناس صالحون، وآخرون مجرمون.
كما في كل مدن العالم… بلا استثناء.
المشكلة حين نُحوّل النقد إلى جلد للواقع، وحين نزرع الخوف في قلوب الناس بلا علم، وحين نُقنع أنفسنا أن “كل الخارج جحيم، وكل الداخل نعيم”. هذه قسمة جائرة، لا تخدم وعيًا، ولا تبني رأيًا عامًّا صحيًّا.
الخلاصة بلا تزويق:
لندن ليست جنة.
لكنها ليست جحيمًا.
فيها مشكلات حقيقية، لكنْ فيها أيضًا نظام، وقانون، وحياة تمضي، وناس يعملون، وأطفال يذهبون إلى مدارسهم، ومترو يمتلئ كل صباح، وأسواق تفتح أبوابها، ومدينة تتحرك رغم كل شيء.
قولوا الحقيقة كما هي، لا كما تريدها الخوارزميات.
انتقدوا بوعي، لا بذعر.
كونوا منصفين، لا مروّجين للرعب.
قليلًا من الإنصاف… يرحمكم الله.
اقرأ أيضًا:
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇



