لماذا نبحث عن إيجابيات بريطانيا؟

منذ أن وجد العرب والمهاجرون والمسلمون أنفسهم في بريطانيا، كانت علاقتهم بهذا البلد علاقة مركّبة: بعضهم جاء مضطرًا بسبب ظروف سياسية أو اقتصادية، وبعضهم جاء اختيارًا للدراسة أو العمل أو بناء مستقبل جديد. ومع مرور الزمن، صار لهؤلاء الناس أسر وعائلات ممتدة، وصارت لهم هنا صداقات وروابط ونَسَب، بينما بقي الحنين حاضرًا إلى الأوطان الأصلية، بما تحمله من صور مثالية وأجواء لا تُنسى.
لكنّ ما يلفت الانتباه هو أن بعضنا لا يرى من بريطانيا سوى السلبيات: يقارن حاضرها بماضيه، أو يضعها تحت مجهر النقد المستمر، أو يركز على العثرات اليومية. هذا السلوك يشبه خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي: ما تبحث عنه مرّة، يظهر لك عشرات المرات لاحقًا. فإذا استهوتك قصص سرقة السيارات في بريطانيا مثلًا، فستفاجأ أن منصاتك امتلأت بمثل هذه القصص، حتى تظن أن البلد غارق فيها، مع أن الواقع أكثر تنوعًا.
إن تكريس النظر إلى السلبيات وحدها له أضرار كبيرة:
- ينغّص على الإنسان عيشه ويجعله أسيرًا للتذمّر.
- يقوده إلى مشاعر سلبية قد تنتهي بالاكتئاب أو أمراض نفسية.
- يمنعه من التكيّف مع واقعه، ويحوّله إلى شخص يجلد ذاته بدل أن يسعى للإصلاح أو التعايش.
الحقيقة أن بريطانيا، رغم ما فيها من تحديات، بلد غني بالإيجابيات. هنا نظام قانوني يحفظ الحقوق، وخدمات صحية وتعليمية متاحة للجميع، ومؤسسات ديمقراطية يمكن الانخراط فيها والتأثير من داخلها، ومساحات واسعة للعمل التطوعي والمجتمعي. هنا أيضًا حريات دينية وفكرية تمكّن المسلمين من ممارسة شعائرهم وبناء مؤسساتهم، بل وتتيح لهم المشاركة في الحياة العامة كجزء فاعل في المجتمع.
لقد قررت منذ سنوات، وبعد تجربة الإقامة في أكثر من بلد، أن أتعامل مع أي مكان أستقر فيه باعتباره “أفضل بلد في العالم” بالنسبة لي في تلك اللحظة. أركّز على إيجابياته، وأحصّن نفسي أمام سلبياته، وأتعامل معها بعقلانية لا بإنكار ولا بتضخيم. هذه القناعة لا تعني التغاضي عن المشاكل أو التوقف عن النقد البنّاء، لكنها تعني أن أجعل حياتي أجمل، وأن أعيش الواقع كما هو، بدل أن أظلّ أسيرًا لصور مثالية عن الماضي أو لعدسة سوداء ترى العثرات وحدها.
إننا، نحن العرب والمسلمين في بريطانيا، أحوج ما نكون إلى هذا التوازن. أن نرى الإيجابيات لنستثمرها، وأن نعترف بالسلبيات لنعالجها، لكن دون أن نُغرق أنفسنا في جلد الذات أو الانعزال عن المجتمع. فالحياة هنا مليئة بالفرص لمن أراد أن يفتح عينيه على الجوانب المضيئة، ويصنع منها قصته الخاصة.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇