عرب بريطانيا: الهوية الحائرة
احترتُ طويلًا في البحث عن الموضوع الأول لافتتاح مقالاتي على هذا الموقع الجميل؛ “العرب في بريطانيا“. ومع تزاحمِ الأفكار التي تحتاج إلى المعالجة والمناقشة مع الجمهور العربي المقيم في بريطانيا، يعجز المرء أحيانا عن إيجاد الزاوية المناسبة. لكن ليس طويلًا! سأبدأ من حيث توقفت عن الكتابة، بعد أن أنهيت رسالةَ الدكتوراة، التي كان صلب موضوعها عن الجالية العربية في بريطانيا، وتحديدًا الجيل الثاني من الشباب اليافع، الذي وُلِدَ وترعرع في بريطانيا.
وبالنظر إلى ندرة الأبحاث التي تناولت هذا الموضوع على أهميته الكبرى، فقد خرجت بالعديد من النقاط التي لا تزال تجولُ في خاطري، وأحببتُ مشاركتها مع جاليتنا العربية في بريطانيا، وأطرحها للنقاش الموسّع.
ليس المراد هنا الجانب الأكاديمي إطلاقًا، لكن ما خرجتُ به في بعض الزوايا، أثار الاستغراب والدهشة وفي بعض الأحيان، الصدمة. وسأتناول في قابل الأيام بعضًا من هذه النقاط بمزيج من التفاصيل، وأرغب فعلًا أن أسمع من الآباء والأبناء على حدٍّ سواء، آراءهم حول هذه الأمور.
من أبرز وأهم النتائج التي تبيّن لي عِظَمَ أهميتها وبالغ تأثيرها، الإهمال الذاتي البالغ، حدّ التهميش لوجود الجالية العربية في بريطانيا ككل. فهناك الكثير من الجاليات الأصغر حجمًا، لكن لها صوتًا وحضورًا قويًّا في محافل عدة، ولا اقصد هنا في المجال السياسي تحديدًا، على أهميته، لكن في أي مجال آخر.
وأبسطها المجال الأكاديمي، فلا تكاد تجد أبحاثًا حولها، إلا بعض المبادرات النادرة جدًا.
ولا توجد حتى إحصائية دقيقة لمن هم من ذوي الأصول العربية، وهذا أمر بالغ الخطورة، ولا يجب أن يُؤخذ بهذه البساطة والسذاجة. وربما لا يعلم الكثير أنه تم تصنيف “العرب” في إحصائيات السكان في بريطانيا في العام 2014 للمرة الأولى، رغم أن الوجود العربي في بريطانيا يعود إلى أكثر من 130 عامًا للوراء! ولذلك يتناسب الوصف بـ The invisible community أو “المجتمع الخفي” مع الحقيقة، (المصطلح مقتبس للأمانة العلمية).
ربما سيقول البعض وما أهمية ذلك؟ الإجابة بسيطة ومعقّدة في ذات الوقت. فإذا لم نكن بهذا الحرص على ما سيعود علينا مباشرة، فلْنفكر في جيل الأبناء، حقوقهم وامتيازاتهم. وهنا الجزء الأكثر أهمية، كيف ذلك؟
أعود هنا، لما خرجت به من البحث الذي اقتضى مني مقابلة العشرات من هؤلاء الشباب، بشكل شخصي، والاستماع لهم مباشرة. ما سمعته من البعض هالني للغاية. وسأعرض له في الأسابيع والأشهر المقبلة لاستمع للآباء أيضًا.
أنانية الكثير من الآباء، ومحدودية الرؤية، والعجز عن التأقلم، والتفكير الدائم في أننا “سنرجع يومًا” لبلادنا، ولا أقصد هنا أي بلد بالتحديد، أوجد جيلًا من الأبناء وقد اختلطت عليه الأمور بشكل مزعج للغاية. فتحديد الهوية هو أمرٌ يجمع عليه كل ذي لبٍّ عاقل، فضلًا عن كل علماء النفس والاجتماع، وقادة الفكر والرأي.
وهذا الأمر تحديدًا، وجدت فيه خلطًا وغموضًا وعدم وضوح، لدى غالبية من التقيت بهم. ففي حين يظن كثير من الأهل أنهم يعرفون كل شيء عن أبنائهم، أعربَ عدد كبير من الأبناء عن رأيهم أن آباءهم بالكاد يقدّرون ماذا يريدون، وكيف يفكرون، وبم يهتمون، وما هي طموحاتهم، خاصة في البلد التي يشعرون بالانتماء لها.
ضياع الهوية العربية في الغربة … بريطانيا
هذا الانتماء الذي يشعر كثير من الآباء أنه خطرٌ على شخصية الأبناء، هو بالأساس نتاج لمفاهيم عدة مختلطة كالأسباب والجذور. وقد يحتاج هذا الأمر تحديدًا إلى نقاش عميق وهادئ، في توضيح الكثير من اللبس واللغط. وهو بالمناسبة أحد النتائج المباشرة للإهمال الذاتي للجالية العربية.
وبالعودة إلى نقطتي السابقة، فموضوع الهوية، أمر يحتاج إلى عمق أكبر في النقاش، واستمرارية وتفهم لكل الاراء وأخذها بالاعتبار.
فالـ”الهوية الحائرة” لهذا الجيل من الشباب، هي نتاج المفاهيم التي يحاول الآباء تثبيتها في ذهن الأبناء، بشكل مقصود، وفي غالب الأحيان بشكل غير مقصود، أو من دون وعي لها، تحت عناوين مثل: المحافظة على الدين، المحافظة على التقاليد، المحافظة على العادات، الاحتراس من الذوبان، الاحتراس من التأثيرات السيئة للمجتمع المضيف، وغيرها من النقاط. وهي نقاط مشروعة بالمناسبة، وسأتعرض لها بشكل مفصّل في مقالات أخرى.
خلاصة القول أن التشرذم الحاصل والمستمر منذ سنوات وعقود، يحمل مخاطر كبيرة على الأجيال الجديدة وقدرتها على الاندماج الواعي، لتحقيق وجود فاعل ضمن نسيج المجتمع البريطاني الذي يحمل في طياته قدرة على استيعاب الثقافات المتنوعة، يجب علينا الاستفادة منها حتى أقصى الحدود، أملًا في تعبيد الطريق أمام الأجيال اللاحقة، لتحقق الأدوار المطلوبة منها في ترسيخ الثقافة العربية والإسلامية، كجزءٍ لا يتجزأ من المجتمع البريطاني.
اقرأ المزيد
مهرجان تراث مغربي وعربي ضخم في واتفرد شمال غرب لندن!
منصة إلكترونية جديدة خاصة بالعرب في بريطانيا
هل جيرانك من غير العرب سعداء بجيرتك ؟
الرابط المختصر هنا ⬇