شهداء الكلمة.. أبطال الحقيقة في زمن الخذلان

رحلوا، أولئك الذين كانوا صوت الحق في زمن الباطل. اختاروا الكلمة سلاحًا، والعدسة مرآةً للحقيقة، في زمنٍ تجرد فيه كثيرون من الوفاء للواقع، وظنّوا أن الصمت أبلغ.
في حرب إبادة بشعة، كانوا يراهنون على كرامة الأمة قبل كل شيء. لم يخشوا الموت، ولم يهابوا الأعداء. حملوا رسالتهم بثبات، يعكسون بعيونهم واقعًا يتجاهله الكثيرون. لم يطلبوا جزاءً سوى أن تصل رسالتهم إلى كل الأرجاء. أحرارًا كانوا، ورحلوا أحرارًا. أصرّوا حتى آخر أنفاسهم أن يكونوا الصوت الذي لا ينكسر، رغم الدماء التي سالت، والصرخات التي تعالت، والعزائم التي طُويت. ظلّوا مدافعين ببسالة بصوتهم، لم يهابوا أحدًا، وكأن ما يحملونه من معدات إعلامية أقوى من أقوى سلاح في وجه الطغاة.
مضوا شهداء كلمة الحق، شهداء العدالة في زمنٍ ظنّ فيه البعض أن الطغيان هو الأقوى. نعم، رحلوا، لكنهم تركوا لنا إرثًا عظيمًا من الأمل بأن الحق لن يموت ما دام وراءه مطالب. تركوا لنا دروسًا في مواجهة الظلم، وأكدوا أن مهر الجنة لا يقدر عليه الجميع. جعلونا نفكّر أكثر في أن من عدل الله سبحانه وتعالى أنه خلق الجنة طبقات ودرجات، فوالله، حاشا لله أن نوزع منازل الجنة لأحد، لكننا نوقن أن عدل الله سبحانه هو من سيقضي بأن يكون الفردوس مستقرهم. فلنلحق بالركب، ولو بأضعف الإيمان، بكلمة حق تكون شاهدًا على أننا، رغم عجزنا وقلة حيلتنا، ما زلنا نستطيع طمس الباطل ونشر الحقيقة. نستطيع أن نقف ونقول كلمة حق في وجه سلطان جائر.
فأصوات الحق، قبل أن ترحل، عاهدتنا على البقاء على العهد. غابوا أجسادًا، وبقوا أرواحًا تسكننا. لن نضيّع الأمانة. غابوا عن عيوننا، وبقيت صورهم حيةً في مخيلتنا. أبطالٌ لن ينساهم التاريخ.
لقد رحلوا بأجسادهم، لكنهم خُلدوا في ذاكرة الزمن. لن تُنسى كلماتهم، ولن تُسكت الحقيقة التي حملوها، وحملونا أمانتها.
اليوم، نحن الذين نمشي على الأرض التي كانت شاهدة على استشهادهم، مطالبون بأن نرفع أصواتنا، وأن نكون كما كانوا، لأنهم علمونا أن الحق لا يموت، حتى وإن طالت ليالي الظلم. وصاياهم لنا أصبحت عبئًا وثقلاً على عاتقنا. كيف لنا أن نتوقف عن الحديث عن وطنٍ سكن فينا دون أن نسكن فيه؟ لن نتوقف عن الحديث عن أرض الرباط، فهذا أضعف الإيمان، أضعف ما نستطيع فعله في زمنٍ تخلّى فيه الجميع وتظاهروا بالصمت. سنبقى على العهد ماضين، لن توقفنا مشاهد الظلم، بل ستزيد من بذلنا. لن تضعفنا رائحة الموت التي سكنت المكان، بل سنجعل من بأسنا وحزننا نبراسًا نكمل به الطريق، بقوة إيمان ويقينٍ بأن بعد العسر يسرًا، وبأن الجميع سيدفعون ثمن أن نكون أو لا نكون، وسط عالم ضاعت فيه الكرامة وقلّت فيه العزّة.
تخاذلٌ لم يسبق له مثيل، حتى إننا نخجل أن يدرس أبناؤنا ما حلّ بنا من عجزٍ وقلة حيلة دون أن نفعل شيئًا. نقيضٌ بين أن نمزق صفحات التاريخ، حتى لا يعلم الأجيال القادمة التخاذل وما حلّ بنا من ضعف وهوان، وبين أن نُبرز صفحاتنا تخليدًا وتكريمًا لما فعلوه: أبطالٌ حقيقيون دافعوا بكلماتهم عن حق شعبٍ ظُلم، فسطر التاريخ قصصهم بعزة وكرامة.
رحم الله شهداء الكلمة، وجعل أرواحهم شفيعةً لنا في زمنٍ نحتاج فيه إلى صوت الحق أكثر من أي وقت. رحمهم الله أحياءً بعد الموت، ورحمنا أمواتًا في حياة قهر.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇