كل ما تود معرفته بشأن إخراج القيمة في زكاة الفطر
اختلف العلماء في إخراج قيمة زكاة الفطر، ويرجع سبب ذلك إلى اختلافهم في حقيقة الزكاة أصلًا: أهي عبادة وقربة محضة لله تعالى، أم هي حق مترتب في مال الأغنياء للفقراء؟
والذي يبدو أن الزكاة تحمل المعنيين، وهذا يُستنبط من حديث ابن عباس، الذي قال: (فَرَضَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم– زَكَاةَ الفِطرِ طُهرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعمَةً لِلمَسَاكِينِ)، فهي تُطهر الصائم، وهذه الناحية التعبدية، وهي طُعمة للمساكين، وهي الناحية التي يتحقق فيها النفع للمسكين الآخذ.
ولأن المقصود من الزكاة إغناء الفقراء كما في قوله –صلى الله عليه وسلم–: (أغنوهم –يعني المساكين– في هذا اليوم).
إخراج قيمة زكاة الفطر في رمضان 2024
وفي المسألة خلاف مشهور، والعلماء في ذلك على أقوال، منها:
القول الأول: لا يجزئ إخراج القيمة في زكاة الفطر، بل يجب إخراج الطعام، وهذا مذهب الجمهور؛ فهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، كما هو مذهب ابن حزم الظاهري.
ولمّا سُئل الإمام أحمد عن إخراج المال قال: أخاف أن لا يُجزئه. فقالوا: إن الخليفة عمر بن عبد العزيز يرى إخراج المال؟ فقال: اتباع السنة أولى، نقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: قال فلان!
يُشير إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «فَرضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفَطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ …».
وحجة القائلين بعدم إجزاء إخراج القيمة ما يأتي:
1 – حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ –رضي الله عنه– قَالَ: “كُنَّا نُعْطِيهَا فِى زَمَانِ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم– صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ قَالَ أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ”.
2 – قالوا: إن هذا كحكاية الإجماع عن الصحابة رضي الله عنهم.
3 – حديث ابن عمر -رضي الله عنه-: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ”، وهو إخبار بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرض الزكاة هكذا.
4 – حديث ابن عباس أنه فرضها طعمة فقال: “وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ”، وهذا يعني أنها طعام.
القول الثاني: يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر
وبه قال أبو حنيفة، وقد سُبق أبو حنيفة إلى هذا القول، فهو ثابت عن عمر بن عبد العزيز، فقد رَوى ابن أبي شيبة عن عون قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يُقرأ إلى عدي بالبصرة -وعدي هو الوالي-: يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم. أي: عن زكاة الفطر.
وهذا لم يكن مجرد رأي شخصي لعمر بن عبد العزيز، وإنما جعله أمرًا عامًّا، وأمر واليه أن يأخذ من أهل ذلك البلد نصف درهم عن زكاة الفطر ولم يقع عليه اعتراض، والتابعون والأئمة حاضرون متوافرون، وعمر هو من العلماء المجتهدين.
وجاء عن الحسن البصري أنه قال: “لا بأس أن تعطى الدراهم في زكاة الفطر”.
وقال أبو إسحاق السبيعي: “أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام”. وكأن البخاري مال إلى هذا في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة، وأشار إلى ذلك.
وهذه المسألة من المسائل التي وافق فيها البخاري الحنفية، مع أن البخاري في الغالب يرد عليهم في صحيحه، خصوصًا في التراجم، ولكنه في هذه المسألة وافقهم، قالوا: وإنما قاده إلى ذلك الدليل.
وهو مذهب الثوري. وهؤلاء من سادة التابعين؛ ومنهم مَن يُخبر عن الناس في وقته، وليس يخبر عن رأيه فحسب، ولا يلزم أن يكون خبره عن الناس جميعًا، بل يكون عملًا مشهورًا معمولًا به. فلذا ذهب جماعة من العلماء إلى جواز إخراج صدقة الفطر مالًا.
وممن قوَّى هذا الرأي ونصره من المتأخرين: الشيخ مصطفى الزرقا، فإنه كتب بحثًا في كتاب “العقل والفقه في فهم الحديث النبوي”، وطُبع في فتاويه بعد وفاته، وهو بحث مطول، وأيَّد فيه القول بجواز إخراج المال في صدقة الفطر، وممن نصره أيضًا: الشيخ أحمد بن محمد بن الصِّدِّيق الغُمَاري في “تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال”.
ومن الأوجه التي يتعزَّز بها هذا القول ما يأتي:
1- أن الأحاديث الواردة كلها أحاديث فعلية، وليس فيها قول يمنع من إخراج القيمة في زكاة الفطر.
2- قالوا: ربما كانت القيمة أفضل للمعطي وأفضل للآخذ، وربما كان أيسر أيضًا للمعطي وللآخذ.
3- أن هذا الفعل كان عليه السلف في العصور الأولى، كما ثبت عن عمر بن عبد العزيز، وأبي إسحاق السبيعي، ولم يُنكر في ذلك العصر، فعدم إنكاره دليل على أن الأمر كان فيه سعة، فإن أخرج طعامًا فحسن، وإن أخرج مالًا فحسن.
4- أن معاذًا -رضي الله عنه- لما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن كان يأخذ منهم القيمة في زكاة المال، فكان يأخذ بدل الحنطة والشعير القيمة، ويبعث بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فهذا دليل على أنه يجوز أن يُخرج المال بدلًا من الطعام.
5- أن الأمر ليس تعبديًا محضًا لا يجوز الخروج عنه إلى غيره، وإنما هو أمر مصلحي واضح، أي: أن المقصود من صدقة الفطر منفعة الآخذ والباذل، ومنفعة الآخذ أولى، وإخراج القيمة -خصوصًا إذا طابت بها نفس المعطِي ونفس الآخذ، وأنه أحب إليهما معًا- يحقق مقصد الشرع في التوسعة على الناس، وفي تطهيرهم وفيما فيه تحقيق مصالحهم، وليس فيه ما يعارض نصًّا ظاهرًا.
6- أن الفقهاء اختلفوا في إخراج زكاة المال من العُروض أو إخراجها من المال، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
الثالث: أنه مخيَّر بين إخراجها من العُروض أو نقدًا.
في هذا القول تخيير بين النقد وبين إخراجها من نفس المال، والأفضل هو الأنفع للفقراء، فلو علم أن الفقير سوف يشتري بهذا المال عُروضًا؛ كان الأفضل أن يعطيه عُروضًا؛ حتى يوفر عليه القيمة ويوفر عليه التعب، وإن علم أنه إن أعطى الفقير عُروضًا فإنه سوف يبيعها –وربما يُنقص قيمتها عند بيعها إلى نصف الثمن أو ثلثه– فيكون الأولى أن يُعطيه مالًا في هذه الحالة.
وقد رجَّح ابن تيمية في هذا أنه إذا كان ثمة حاجة ومصلحة فإنه يجوز إخراج المال عن العُروض.
قال “ابن تيمية” بعد أن ذكر الأقوال في إخراج القيمة في زكاة الفطر: “والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة، ولا مصلحة راجحة ممنوع منه، ولهذا قدَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- الجبران بشاتين أو عشرين درهمًا، ولم يَعدل إلى القيمة، ولأنه متى جوز إخراج القيمة مطلقًا، فقد يَعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر في قدر المال وجنسه، وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة، أو العدل، فلا بأس به”.
فيجوز أن يُخرجها ثيابًا، ويجوز أن يُخرجها نقدًا، لكن إن كان الفقير الذي تُعطيه الثياب سوف يبيع هذه الثياب ليأخذ النقد ويشتري به طعامًا فالأفضل أن تُعطيه نقدًا؛ لأنه أصلح له؛ لأنه سوف يبيع الثوب بأقل من قيمته حتى يحصل على النقد، أما إذا كان هذا الفقير سيلبس الثوب والثوب أنفع له من النقد، فيكون إعطاؤه الثياب أفضل.
فإذا كان هذا في زكاة المال وهي ركن من أركان الإسلام، وفرض بالاتفاق، ووجوبها أظهر وأمرها آكد؛ فأنْ يكون هذا سائغًا في زكاة الفطر من باب أولى.
7- ومما يُعزز هذا المعنى: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مما يُخرج -كما في حديث أبي سعيد- الشعير، فإذا جاز أن يُخرج الشعير فالذهب أولى بالجواز؛ لأنه أعظم منه قيمة، والشريعة جاءت بالعدل والميزان، وهذا من العدل والميزان.
8- ومن الأدلة التي تُقوي هذا أن الفقهاء عامة عدلوا عن الأصناف المذكورة في الحديث إلى ما يسمونه بقوت البلد، وهذا تجده عند الحنابلة والحنفية والشافعية والمالكية ممن لا يقولون بإخراج القيمة في زكاة الفطر، فيقولون: له أن يُخرج من قوت البلد، فإذا كانت المسألة وقوفًا على النص فيلزمهم أن يقتصروا على ما ورد به النص ولو لم يكن من قوت البلد وألا يجزئ عندهم إخراج القوت إذا كان من أصناف أخرى لم ينص عليه الحديث، أما إن كان الأمر يدور على رعاية المعنى والمقصد فحينئذ نقول: العدول عن قوت البلد مؤذن بأن الأمر فيه سعة، وأن المقصود إيصال الخير للمستحق سواء كان هذا الخير طعامًا أو غيره.
وهذا مصير منهم إلى التقييم والقيمة؛ لأنهم قوّموا ما كان قوتًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرجوا بدله.
على أن المسألة ليست من أصول الاعتقاد، ولا هي من كُبْرَيات المسائل التي يكون عليها معقد الولاء والبراء، فلا ينبغي فيها التعصب والتشديد على الناس ورمي المخالف والطعن في ديانته، أو في علمه وعقله، ولا تجاهل القول الذي لا يرتضيه الفقيه؛ لأن هذا يلبس على العامة، وبخاصة في عصر عولمة الفتوى وكسر الحواجز المذهبية والاجتماعية. والله أعلم.
رابط التبرع لمنظمة Action for Humanity هنا. |
المصدر: المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇