العرب في بريطانيا | رفقًا بالقلوب المنهكة.. لا تطلب من الناس ما لا ...

رفقًا بالقلوب المنهكة.. لا تطلب من الناس ما لا تراه فيهم

مقالArtboard-2-copy-3_2

دخلتُ أحد المحلات المعروفة في لندن، ذلك النوع من المتاجر التي تتفاخر بإعلاناتها عن “أعلى معايير الخدمة المقدمة للزبائن”، والتي تَعِدُك بابتسامات مشرقة واهتمامٍ بالغ، وكأن دخولك إليها يُفترض أن يكون تجربةً لا تقل عن الدخول إلى جناح فندقي فاخر.

لكن ما واجهني كان شيئًا آخر.

كانت الموظفة على الكاشير عابسة الوجه، شاردة النظرات، تنظر إليّ ولكن من خلالي، كأنها تراني ولا تراني. ألقيت طلبي، لكنها أعادت السؤال كأنها لم تسمعه. للحظة، شعرت بشيء من الانزعاج: أليس من حقي كزبون أن أُعامل بلطف؟ أليس “التركيز” جزءًا من مهمات العمل؟

لكن قبل أن تخرج مني كلمة عتاب، سمعت صوتًا من داخلي، يقول بهدوء:
“ماذا لو وضعت نفسك مكانها؟”

كل إنسان معركة صامتة

نحن نعيش في زمن يغلب عليه التسارع والانشغال، ويُقاس فيه الأداء بالنتائج فقط، دون أن نُعطى وقتًا لنفهم ما وراء السلوك.

فكّرت:

ماذا لو وصلها خبر فاجع هذا الصباح؟

ماذا لو كانت تُصارع همًّا ثقيلًا: مرض أحد أفراد أسرتها؟ طلاق؟ ديون؟

ماذا لو كانت تعاني من قلقٍ مزمن، أو اكتئاب لا يظهر على السطح؟

بل ماذا لو أن مجرد خروجها من المنزل اليوم، وانتظامها في العمل، هو إنجاز بطولي لا نراه؟

أنا سأغادر المكان بعد دقائق، ربما إلى استراحة، أو إلى بيت دافئ، وربما لن أتذكر الموقف أصلًا بعد حين، لكنّها قد تبقى لساعات، حبيسة ضغوطها، تُحاسَب على كل خطأ، وتُطالب بأن تكون “مثالية” في كل لحظة، حتى لو كانت تنهار من الداخل.

الإنسانية قبل التقييم

في لحظات كهذه، يظهر جوهر الأخلاق، وتَستبين معادن الناس.

لم أختر الصمت مجاملة، بل اخترته إنسانية.

لم أشكرها ضعفًا، بل تفهّمًا.

فإن لم نكن ممن يهوِّن على الناس ما يمرون به، فلنكن على الأقل ممن لا يزيدون أوجاعهم.

صحيح أن أماكن العمل لها متطلبات، وأن الزبائن لهم حقوق، لكننا بوصفنا أفرادًا في هذا العالم المثقل بالهموم، بحاجة إلى لحظات رحمة أكثر من حاجتنا إلى لحظات مطالبة.

فمن قال إن كل ما لا يعجبنا، يستحق منا تعليقًا؟

ومن قال إننا يجب أن نُبدي رأينا في كل خطأ نراه؟

وأي خطأ؟ قد لا يكون خطأ أصلًا، بل انعكاسًا لمعركة داخلية صامتة.

أن تكون لطيفًا.. لا يعني أن تكون ساذجًا

الرفق لا يناقض الحزم، واللطف لا يعني أن نرضى بالتقصير الدائم.

لكن الأمر هنا لا يتعلق بنظام الشكاوى أو تقييم الخدمات، بل بفلسفة التعامل اليومي، بتلك المساحات الصغيرة التي نختار فيها أن نكون قسوة إضافية على قلب متعب، أو أن نتجاوز ونمنح لحظة هدوء لروح ربما تنهار.

تخيّل لو تعامل كل منا مع الآخر بهذه الحساسية.

كم من الخلافات ستُجَنَّب؟

وكم من الأرواح ستجد مساحة للتنفس، بدلًا من أن تختنق كل يوم بكلمة زائدة أو نظرة جافة؟

الوعي بأننا لا نعلم كل شيء

نُوَطِّن أنفسنا أحيانًا على التقييم السريع: هذا موظف غير مؤهل، وتلك طبيبة متعجرفة، وهذا نادل بطيء، وتلك موظفة وقحة… نعلّق على ما نراه في ثوانٍ، ونبني عليه حكمًا يستقر في رؤوسنا، وربما ننقله إلى غيرنا أيضًا.

لكننا ننسى أن وراء كل وجه قصة، ووراء كل تصرف خلفية لا نعرفها.

الفتاة العابسة ربما فقدت والدها ليلة أمس.

والشاب المتوتر ربما يبيت في سيارته منذ أسابيع لأنه طُرد من منزله.

والعامل الصامت ربما لا يتقن الإنجليزية لكنه يحاول كسب لقمة عيش نظيفة.

نحن لا نعلم، ولن نعلم.

لكننا نملك الخيار: أن نحكم أو أن نتفهم.

أن ننتقد أو أن نرفق.

كن لطيفًا دائمًا…

ثمة مقولة تُنسب لكثيرين، لكنها صارت قاعدة ذهبية:
“كل امرئٍ تقابله، يخوض معركة لا تعلم عنها شيئًا.. فكن لطيفًا دائمًا”.

وقد يكون هذا المعنى، في جوهره، أقرب لما دعا إليه ديننا الحنيف حين قال النبي ﷺ:
“من لا يَرحم لا يُرحم”
وفي آية قرآنية بليغة: “وقولوا للناس حسنًا”.

في الختام

لسنا مطالبين بأن نحمل هموم الناس، لكننا بلا ريب مطالبون بألّا نكون أحد مصادرها.

ربما لا نستطيع أن نُسعف كل موجوع، لكن يمكننا أن نُقلل من صراخه، أو على الأقل لا نزيد من جراحه.

ففي عالمٍ يزداد صخبًا وقسوة، تصبح الكلمة الطيبة والرفق في التعامل ضرورة أخلاقية تعيد للإنسانية بعض ما فقدته، لا مجرد خُلق جميل عابر.

فلنختر أن نكون من أولئك الذين يمرّون بلُطف، ويتركون أثرًا طيبًا.. حتى في صمتهم.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

التعليقات

  1. بارك الله بك اخي عدنان.
    صدقت
    ونبهت وكلنا غافلين
    الرحمة لا شكل محدد لها
    والرحمة ما نحتاجه جميعا
    شمرا

loader-image
london
London, GB
8:50 am, Jul 31, 2025
temperature icon 17°C
moderate rain
90 %
1016 mb
6 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 75%
Visibility 10 km
Sunrise 5:22 am
Sunset 8:50 pm