العرب في بريطانيا | تعلمت من فيلم “تيتان”… والغواصة الغارقة في 2023

1447 محرم 15 | 11 يوليو 2025

تعلمت من فيلم “تيتان”… والغواصة الغارقة في 2023

فيلم

عندما أطلقت منصة نتفليكس فيلمها الوثائقي الجديد عن حادثة غرق الغواصة “تيتان” في عام 2023، لم تفاجئنا بسرعة الإنتاج مقارنة بحداثة الواقعة فقط، بل أيضًا بثراء المادة البصرية والأرشيفية التي قدّمتها. امتلأ الفيلم بصور ومقاطع أصلية ولقطات أرشيفية نادرة، الأمر الذي أضفى عليه طابعًا حيًّا يقترب من التوثيق اللحظي، وكأنك تعيش القصة مع أبطالها لحظة لحظة. هذه السرعة وهذا العمق في الإنتاج يفتحان مجالًا للتأمل لا في تفاصيل المأساة فحسب، بل فيما تعنيه من دلالات أوسع تتعلق بالابتكار، والسلطة، والغرور.

قصة “تيتان” باختصار تبدأ مع رجل يُدعى ستوكتون راش، مؤسس شركة “أوشن غيت”، الذي أراد أن يغيّر قواعد اللعبة في استكشاف أعماق المحيطات. صمم غواصة غير تقليدية، خارجة عن المعايير المعتمدة، مصنوعة من ألياف الكربون بدلًا من التيتانيوم، وتتحكم بها يد ألعاب فيديو معدّلة. تحدى التحذيرات، وسخِر من الهيئات التنظيمية، واقتنع أن القواعد وُضعت لتُكسر. وفي صيف 2023، اصطحب راش أربعة ركّاب، بينهم ملياردير بريطاني وابنه المراهق، في رحلة لمعاينة حطام “تايتانيك”. بعد ساعات من انطلاقهم، انقطعت الاتصالات، وأُعلن لاحقًا عن تحطم الغواصة ومقتل جميع من كانوا على متنها.

بعد مشاهدة الفيلم، لا يمكن للمرء إلا أن يتأمل في هذه المأساة بما تحمله من عبر ودروس، تتجاوز حدود البحر، لتصل إلى عوالم السياسة والتكنولوجيا والإعلام، وليس هذا فحسب، بل إلى طموحات بعض الشخصيات المثيرة للجدل في زماننا.

فصاحب الغواصة، ستوكتون راش، لم يكن مجرد مهندس أو مغامر، بل رجل تحدّى الإجماع العلمي، واعتبر أن الالتزام بالمعايير “يمنع التقدّم”. هذا النمط من التفكير يذكّرنا على الفور بشخصيات مثل إيلون ماسك في مشاريعه من “ستارشيب” إلى “نيورالينك”، حيث يسعى لتجاوز المؤسسات التنظيمية مثل هيئة الطيران الفيدرالية (FAA)، أو إدارة الغذاء والدواء (FDA)، تحت لافتة الابتكار السريع والمجازفة المبررة. ويقابلهم في عالم السياسة دونالد ترامب، الذي اعتاد تهميش المؤسسات، وتطويع القوانين، والتصرف كأن النظام وُجد لخدمته لا لتقييده.

الدرس الأول الذي خرجت به من الفيلم:

الابتكار ليس مسوّغًا لتجاهل الضوابط، بل يجب أن يقترن بالمسؤولية، وإلا فالعواقب وخيمة.

راش أقنع أثرياء بدفع مئات الآلاف من الدولارات للغوص في مركبة غير مرخّصة بالكامل، معتمدًا على كاريزما شخصية وخطاب حافل بمصطلحات المغامرة. أما ماسك، فكوّن جمهورًا مهووسًا به، يتغاضى عن الإخفاقات والانفجارات المتكررة، سواء في صواريخ “سبيس إكس” أو مشكلات سيارات “تسلا” الذاتية القيادة. ونظيرهما السياسي ترامب، الذي رغم الفضائح والتحريض على العنف، ما زال يتمتع بشعبية، بفضل خطابه الشعبوي الذي يخاطب العاطفة ويتجاهل الحقيقة.

الدرس الثاني:

عندما تتفوق الكاريزما على المصداقية، يصبح الناس أكثر عرضة للخداع… وأحيانًا للموت.

الفيلم أظهر لنا كيف أن راش اختبر تقنيته على ركّابه، لا على دمى أو نماذج تجريبية. اعتراضاتهم قوبلت بالاستهزاء والاتهام بالخوف. ماسك بدوره أدخل شريحة “نيورالينك” في أدمغة بشر في ظل تحذيرات واسعة النطاق من غياب الشفافية بشأن معايير الأمان. وترامب جرّب خلال وباء كورونا “أفكارًا” طبية خطرة، بينها تعقيم الجسم بمواد كيميائية، في لحظة فاضحة من الاستهتار بحياة الناس.

الدرس الثالث:

لا يحق لأحد أن يجعل حياة الناس حقل تجارب لأفكاره الجامحة.

وهنا نصل إلى خلاصة لا مفر منها:

هناك خيط رفيع بين الطموح المشروع والغرور المدمر.

راش رأى نفسه رائدًا سيغير فهم البشرية لأعماق البحار، فانتهى قائدًا لمأساة.

ماسك يطمح لاستعمار المريخ، لكن أهذا حلم إنساني أم مشروع شخصي مشوّه؟

ترامب يروّج لنفسه “منقذًا لأمريكا”، لكنه يمزق النسيج الاجتماعي الأمريكي بخطابه الانقسامي.

نعم، لا بأس بالطموح الكبير، بل هو ضرورة في بعض الأحيان، لكن بشرط أن يخضع للمراجعة، والتقييم، والمحاسبة، لا أن يُقدّس ويُحصَّن من النقد.

إن قصة ستوكتون راش والغواصة تيتان ليست مجرد مأساة في قاع المحيط، بل جرس إنذار عالمي ضد عقلية “البطل الأوحد” الذي يظنّ نفسه فوق العلم، وفوق الدولة، وفوق الناس.

سواء كنا في قاع البحر، أو على أبواب المريخ، أو في دهاليز السياسة، تظل المساءلة حجر الأساس في أي مشروع إنساني، وتبقى السلامة والحكمة أعلى من جنون العظمة.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

التعليقات

  1. معظم حكام العرب والمسلمين عبر التاريخ وليس الآن فقط، يتصرفون بعقلية البطل الاوحد، أو الأصح، الفرعون. والشواهد على ذلك لا تُحصى قديماً وحديثاً. الثقافة السائدة تساعد كثيراً في توفير الحاضنة المناسبة لإنتاج الفرعون.

اترك تعليقا

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

loader-image
london
London, GB
6:47 pm, Jul 11, 2025
temperature icon 31°C
clear sky
36 %
1017 mb
7 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 6%
Visibility 10 km
Sunrise 4:56 am
Sunset 9:15 pm