الأطباء المهيؤون للحرب يصابون بـ”التروما” فما حال البقية؟

بوجه هادئ ولكنه قلِق، يطل علينا الدكتور عمر عبد المنان في بودكاست عرب لنطرح عليه أسئلة صعبة، ويجيبنا عنها بالهدوء ذاته. ثلاث مرات ولمدة دقيقة واحدة في كل مرة، يتحدث اختصاصي أمراض الأعصاب لدى الأطفال المصري البريطاني عمر عبد المنان عن الشعور الذي منحته إياه غزة، ولم يستطع أي مكان آخر أن يكسبه هذا الشعور.
وهو الذي رحل من مسقط رأسه مصر مبكرًا في الثامنة من عمره، وعاش في بريطانيا زمنًا طويلًا، ولا يزال شعور الغربة أو عدم الانتماء يصحبه حتى حطّ رحاله أخيرًا في غزة، فكانت المفاجأة ووجد شعور الانتماء، ولا تفسير لديه لما حدث، لكن ذلك ما حدث وحسب.
القرار الأصعب
يصف الدكتور عمر حالات الأطفال التي تُعالَج في غزة، ويشير إلى الرجفة التي تصيبهم فور خروجهم من البيوت المدمرة، ويتساءل كثيرون عن أسبابها، فيجيب الدكتور عمر بأنها بسبب الصدمة التي تعرّض لها جسم الطفل بعد سقوط المنزل عليه، ومن أسبابها أيضًا تعرض الطفل لنزلة برد على إثر بقاء كثيرين تحت الأنقاض إلى أن يأتي من يتمكن من إخراجهم وإزالة الركام عنهم.
ويشير الدكتور عمر إلى العدد الهائل من الحالات التي تأتي دفعة واحدة إلى المشافي، وكيف أن الطبيب يتحتم عليه الاختيار بين الحالات، وإعطاء الأولوية لعلاج من يملك أكبر فرصة للنجاة، وهذا بخلاف ما وُجِد الطبيب من أجله، وخلاف ما تعلمه في كلية الطب من أخلاق المهنة، وبلا ريب خلاف ما تمليه عليه إنسانيته.
الأطباء “المهيؤون للحرب” يصابون بالتروما فكيف حال البقية؟
يصف الدكتور عمر رحلته الطبية في غزة بأنها في غاية الصعوبة والجنون، وأن ما نراه على الشاشات لا يمثل 1 في المئة مما يحدث هناك، وأن شخصًا لو أراد وصف ما يحدث، فإن أحدًا لن يصدقه، وهذا ما حدث مع صديقه “نيك” الذي حاول إيضاح ما شاهده هناك لأهله، وكان صعبًا عليهم تخيله، ويؤمن الدكتور عمر بأن صديقه مصاب بـ”التروما” (الصدمة النفسية) من هول ما رأى. هو يعرف صديقه جيدًا، ويؤكد أنه لم يَعُد الشخص ذاته.

القلق الحقيقي!
وما يثير قلق الدكتور عمر ويقضّ مضجعه المفارقة التي رآها بأمّ عينيه، وهي توجيه صناع القرار في الدول الغربية لمصائر ضحايا الحرب سواء من الناحية الإعلامية أو السياسية، والمفارقة التي عاشها هو على وجه الخصوص بين حرب أوكرانيا وحرب غزة، إذ عمدت الحكومة البريطانية إلى جلب أكثر من 100 طفل أوكراني مصاب لتلقي العلاج، إلا أن هذا لم يحدث مع أطفال غزة رغم أعدادهم الهائلة التي تساوي أضعاف أقرانهم في أوكرانيا، ورغم مطالبة الأطباء رسميًّا من الجهات المسؤولة بضرورة التدخل وجلب الحالات الصعبة لعلاجها.
الموقف الذي جعلني أتبنى قضية فلسطين بشكل أقوى
ولا ينسى الدكتور عمر حين كان مسؤولًا في الكلية ضمن فريق شؤون الطلبة، وأرسل بريدًا إلكترونيًّا إلى الطبيب الصحفي البريطاني ريتشارد هورتون؛ لكي يتحدث أمام الطلبة عن أي موضوع يريد في فعالية قادمة، لا ينسى الدكتور عمر ما جاء في رده في البريد الإلكتروني الذي احتوى على جملتين وجيزتين: “أوافق على الدعوة بكل سرور، ولكن بشرط أن أتحدث عن القضية الفلسطينية”.
وهنا كانت المفاجأة للدكتور عمر، إذ استغرب أن يهتم شخص أجنبي هذا الاهتمام بتبني القضية الفلسطينية، وهو -كما يقولون- لا ناقة له ولا جمل في هذا الأمر. فوجد الدكتور عمر نفسه أمام رسالة إنسانية يجب أن يوصلها عبر مهنة الطب. وعاهد نفسه على ذلك. فضلًا عن قناعته التي ترسخت مع الأيام، وهي أن القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل هي قضية العرب قاطبة، وقضية الناس كافة.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇