روث… امرأة إنجليزية قطعت أوروبا مشيًا لأجل أطفال غزة وجمعت 53 ألف باوند للإغاثة
في أمسية دافئة كان لها ما يشبه الطابع العائلي، اجتمعنا في مطعم الصديق حليم خير الله «شكشوكة» بلندن للقاء السيدة روث. لم يكن اللقاء عابرًا ولا رسميًا؛ بل جاء امتدادًا لرغبتنا في تكريمها على مبادرتها الملهمة، واحتضان قصتها التي حملت معها كثيرًا من المعاني الأخلاقية. وكعادته، كان حليم يستقبل ضيوفه كما لو أنهم أفراد من بيته؛ يحسن الترحيب، ويوسّع المكان بروحه قبل طاولاته، ويضبط إيقاع الأمسية على أنغام «أنا دمي فلسطيني»، كأنها رسالة غير معلنة بأن فلسطين ليست قضية بعيدة عن قلب هذا الحي اللندني المتواضع.
وسط هذا الدفء، جلست روث تروي لنا رحلتها التي لا تشبه إلا أفلام السير الطويلة التي تُبنى على الإصرار والإيمان. فقد سارت — نعم مشيًا على قدميها — من أقصى شمال إنجلترا حتى إسطنبول، مرورًا بـ اثنتي عشرة دولة، في مسار امتد أكثر من شهر كامل. رحلة اعترضت طريقها الدببة في بعض الغابات الشمالية، وواجهت فيها مخاطر عديدة، لكنها واصلت الطريق بثبات امرأة ترى في كل خطوة معنى، وفي كل ميل إضافي واجبًا أخلاقيًا لا يمكن التراجع عنه.
لم تكن رحلتها مغامرة شخصية ولا تحديًا رياضيًا، بل كانت فعلًا إنسانيًا صريحًا. فقد خصصت روث رحلتها لجمع التبرعات لصالح الإغاثة الطبية في فلسطين، وتمكنت من حشد نحو 53 ألف جنيه إسترليني — أي ما يقارب 70 ألف دولار — عبر مشاركة يومياتها مع متابعيها، وإلهام آلاف الأشخاص ممن وجدوا في خطواتها ما يعيد إحياء الشعور بالمسؤولية تجاه غزة.
سألتها خلال الحديث:
ما الذي دفعك إلى اتخاذ قرار بهذه الجسارة؟
فأجابت بجملة تختصر الكثير:
“لم أحتمل مشاهدة أطفال غزة يُبادون دون أن أفعل شيئًا. أردت أن أقدّم ما أستطيع… شيئًا مختلفًا، ولو بقدراتي المتواضعة.”
كان هذا الجواب كافيًا لإدراك أن دوافعها لم تكن عابرة ولا تستند إلى موجة تعاطف لحظية. إنها امرأة تجاوزت الستين من عمرها، لكنها تحمل قلبًا يشبه بدايات العمر لا نهاياته؛ قلبًا يرى أن التضامن ليس فكرة رومانسية بل مسؤولية إنسانية، وأن أخلاق الفرد يمكن أن تكون أثقل وزنًا من سياسات دول بأكملها.
روث تحدثت عن محطات الرحلة؛ المدن الصغيرة التي استقبلتها بفضول، والمساحات الشاسعة التي مشت فيها وحدها إلا من صوت الطبيعة، والليالي التي كانت تستيقظ فيها قلقة من البرد أو الخطر، ثم تكمل الطريق لأنها «قد وعدت نفسها بأن تصل». كانت تقول ذلك ببساطة، كأنها تروي نزهة قصيرة، بينما الحقيقة أن ما قامت به يحتاج إلى لياقة جسدية وصبر نفسي وإيمان داخلي نادر.
الأجمل أنها لم تتوقف عند الرحلة ذاتها، بل تواصل اليوم نشاطها التطوعي من أجل غزة. تزور الفعاليات التضامنية، تشارك في حملات الإغاثة، وتتحدث مع كل من يريد أن يسمع قصتها، وكأنها تعتبر رحلتها بداية لا نهاية.
بالنسبة لي، كانت جلستنا معها تذكيرًا بأن التضامن الحقيقي لا يُقاس بحجم الموارد ولا بالقدرة على الظهور الإعلامي، بل بالصدق. وأن من يمتلك خطوة صادقة قادر على فتح طريق جديد، مهما بدت الإمكانيات المتاحة محدودة. روث فعلت ذلك بالضبط: خطوة بعد خطوة، حتى غدت قصتها نفسها جسرًا بين قارات ومجتمعات.
أما حليم خير الله، الذي يجيد تحويل أي لقاء إلى مساحة إنسانية واسعة، فقد أحسن استقبالها على طريقته الخاصة. كانت أجواء الاحتفاء بها تحمل ملامح فلسطينية خالصة: كرم، ودعابة، وموسيقى دافئة، وكلمات اعتزاز لا تُقال للمجاملة وإنما تُقال لقيمة العمل الذي قامت به.
في نهاية الأمسية، شعرت أن تكريم روث لم يكن مجرد شكر لامرأة إنجليزية اختارت أن تقف مع غزة، بل كان احتفاءً بالقيم التي تجمعنا كبشر: العدالة، والرحمة، والإيمان بالحق في الحياة. والأهم من ذلك، كان تذكيرًا بأن التضامن ليس مهمة نخبوية ولا فعلًا سياسيًا محضًا، بل قرارًا فرديًا يبدأ من إنسان عادي، وينتهي بصناعة أثر غير عادي.
قصة روث تقول لنا جميعًا:
إن الطريق نحو فلسطين، وإن كان طويلًا، يمكن أن يبدأ بخطوة واحدة… إذا كان القلب مستعدًا لها.
يمكنكم التبرع لحملة روث عبر هذا الرابط هنا.
اقرأ أيضًا:
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇



