اليتيم… حين يتولّى الله قلبه لا يظلّ الظالم آمناً
﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾
آيةٌ واحدة، لكنّها تُقيم في النفس ما تعجز مجلّدات الوعظ أن تفعله. فهي ميزانٌ إلهيّ يزن به الله القلوب قبل الأعمال، ويختبر به صدق الإنسانيّة قبل الطّاعة. فالله تعالى لم يربط القهر بضعف اليتيم فقط، بل ربطه بذنوبٍ قد تمحو تاريخاً من السّجود والرّكوع، لأنّ من يجترئ على قلبٍ انكسر بفقد أبيه إنما يجترئ على حدٍّ من حدود الرحمة الإلهية.
اليتيم روحٌ صارت الأرض أرحب مما تبقّى له من دفء، وإنسانٌ يعيش بنصف ظلٍّ ونصف حضنٍ ونصف ذاكرة. لذلك جعل الله له مكانةً لا يشبهها شيء، فكأنّ الله يقول للخلق: “احذروا، فهذا عبدي الضعيف أنا وليّه”.
ولهذا جاء التحذير النبوي العظيم:
“اتّقوا دعوة المظلوم، فإنّها تُحمَل على الغمام، يقول الله: وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين.”
إنّ الظلم كلّه ثقيل، أمّا الظّلم الواقع على اليتيم فهو أشدّ أنواع الظلم وطأةً، لأنّه يقع على قلبٍ لم يجد في الدنيا من يحميه، فمن يمدّ يده لقهر يتيم لا يظلم فرداً، وإنّما يظلم حالةً كاملة من الانكسار، ويصعد ظلمه إلى السماء محمولاً على أنينٍ لا يسمعه البشر، فيسمعه الله.
وقد علّمنا التاريخ أنّ قوة اليتيم في أنّ الله يقف معه. فكم من يتيمٍ مسّه الضرّ، ثم تغيّرت الأقدار فصار علماً بين الناس، وكم من ظالمٍ استقوى على ضعيف، فخُذل في لحظةٍ لم يحسب أنه سيُحاسب عليها. إنّ الله لا يترك اليتيم وحيداً مهما بدا للعالم أنّه بلا سند؛ يكفيه أن الله قال: ﴿ كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴾، فجعل إكرامه مقياساً للإيمان، لا للشّفقة.
ولعلّ أجمل ما في العلاقة بين الله واليتيم أنّها علاقة كرامة لا شفقة؛ فاليتيم عند الله قويٌّ بقدر ما كسرت الدنيا قلبه. وكلّما زادت جراحه كثرت أبواب اللّطف المفتوحة له. لذلك يُقال: إنّ الله إذا أحبّ عبداً جعله قريباً من قلب اليتيم، لأنّ الرحمة الّتي يزرعها في قلبه هي أعظم شهادةٍ على إنسانيته.
أمّا من يقسو على يتيمٍ أو يهمله أو يستغل ضعفه، فإنّه لا يعبث بمصير شخص، يعبث بعهدٍ إلهيّ واضح. فدمعة يتيمٍ واحدة — تُسقطها كلمةٌ قاسية، أو ظلمٌ في ميراث، أو تمييزٌ في معاملة — كفيلة بأن تحجب عن الظالم بركاتٍ كثيرة كان يظنّ أنها من إنجازاته. فالله لا يقبل أن يكون قرب العبد إليه مبنياً على طاعةٍ ملوّثة بقسوة.
اليتيم امتحانٌ للإنسانية كلّها. هو دليلٌ على أنّ الروح لا تُقاس بما تملك، بل بما تُعطي. وأنّ الله حين يتولّى عبداً، لا يملك أحدٌ أن يقهره، ولو ظنّ أنه مهزوم أمام الدنيا.
فالوصيّة الإلهية تحذير:
إيّاك وقهر اليتيم… فخصمه يوم القيامة ليس إنساناً، هو ربّ العالمين.
اقرأ أيضًا:
- من رومانسية المطر في العالم إلى وجع الخيام
- غزة في قلب المنخفض الجوي: 288 ألف أسرة بلا مأوى تحت الابتلاء والدمار
- فنّ إعادة اختراع الذات: كيف نولد من جديد بعد الانكسار؟
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇
