النجاة من الإبادة: شهادات مؤثرة لمعاناة وصمود نساء غزة
نظّم المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين بالتعاون مع منصة العرب في بريطانيا ندوة إنسانية مؤثرة يوم الجمعة 19 ديسمبر 2025، جمعت عددًا من النساء الفلسطينيات اللواتي قدّمن شهادات حيّة عن القهر والعنف المنهجي الذي تعرّضن له خلال وجودهن في قطاع غزة، مسلّطات الضوء على ظروف حياة قاسية جعلت من التعليم والعمل فعلَي مقاومة يوميين في ظل حربٍ استهدفت الإنسان وكل مقومات بقائه.
واحتضنت جامعة SOAS في وسط لندن هذا اللقاء، الذي تحوّل من ندوة تقليدية إلى مساحة مفتوحة للشهادة والذاكرة، ومواجهة محاولات طمس الرواية الفلسطينية داخل الفضاء الأكاديمي والإعلامي الغربي.
افتُتحت الندوة بكلمة مؤثرة ألقتها الناشطة والمعلمة الفلسطينية زينب كمال، شددت فيها على أن هذا اللقاء ليس تمرينًا أكاديميًا ولا حدثًا رمزيًا، بل مساحة أخلاقية للاستماع وتحمل المسؤولية. وأكدت أن النساء الفلسطينيات الحاضرات لسن أرقامًا أو رموزًا، بل شاهدات حيّات على واقع وُصف من قبل خبراء قانونيين ومنظمات حقوقية دولية بأنه إبادة جماعية.
وأضافت أن الشهادة في هذا السياق ليست مجرد سرد، بل فعل مقاومة في زمن يُشكَّك فيه بالألم الفلسطيني، ويُعاد فيه توصيف المجازر على أنها “أضرار جانبية”، داعية الحضور إلى الإصغاء بوصفه موقفًا أخلاقيًا يتطلب وعيًا ومسؤولية.
شهادات من قلب الجرح

توالت بعد ذلك شهادات الطالبات الفلسطينيات، اللواتي نقلن تجارب شخصية عكست حجم الدمار النفسي والاجتماعي الذي خلّفته الحرب، وكيف تحوّل التعليم إلى معركة بقاء في ظل القصف، والنزوح، واستهداف البنية التعليمية.
تحدثت الطالبة والكاتبة سجى حمدان بإسهاب عن معاناة الفتيات في قطاع غزة خلال الحرب، موضحة أن الاستهداف لم يكن عشوائيًا، بل طالهنّ بشكل مزدوج بوصفهن نساءً وطالبات في آن واحد. وأشارت إلى أن انعدام الأمان الدائم، وشحّ الغذاء، وفقدان المأوى، جعل من الحياة اليومية ساحة صراع مفتوحة، تُستنزف فيها الطاقة النفسية والجسدية للفتيات قبل أن يتمكّنّ حتى من التفكير في الدراسة.
وأكدت حمدان أن الفتاة الغزّية كانت تُطالب بالاستمرار في التعليم وسط ظروف قاسية، حيث لا كهرباء، ولا اتصال منتظم بالإنترنت، ولا أماكن آمنة للتركيز أو المذاكرة، فيما كانت أصوات القصف والموت المحيط تحاصر كل محاولة للتعلّم. وأضافت أن الفصل بين متطلبات الحياة اليومية—من البحث عن الماء والغذاء، إلى رعاية أفراد الأسرة الأصغر سنًا—وبين السعي الأكاديمي كان شبه مستحيل، ما حوّل التعليم من مسار طبيعي إلى فعل مقاومة يومي، تُمارسه الفتيات بإرادة صلبة رغم الانكسارات المتراكمة.

أما طالبة الدكتوراه حلا شومان، التي كانت تستعد لتقديم رسالتها بعد يوم واحد فقط من الندوة، فقد قدّمت شهادة عكست بوضوح التناقض الصادم بين الواقعين اللذين تعيشهما الطالبات الفلسطينيات: واقع الحرب والدمار من جهة، ومتطلبات البحث العلمي والانضباط الأكاديمي من جهة أخرى. وأوضحت أن السعي العلمي في غزة لم يعد مجرد طموح شخصي، بل تحوّل إلى فعل تحدٍّ مباشر في وجه تدمير الجامعات، واستهداف الطلبة والأساتذة، ومحو البنية التعليمية بشكل ممنهج.
وشددت شومان على أن الاحتلال تعامل مع المعرفة بوصفها تهديدًا وجوديًا، فسعى إلى تفكيك المؤسسات الأكاديمية باعتبارها حاضنة للوعي والذاكرة والقدرة على التفكير النقدي. وأشارت إلى أن الطالبات الفلسطينيات واصلن العمل البحثي والدراسة في ظروف تفتقر لأبسط مقومات الاستقرار، وهنّ يحملن في ذاكرتهم صور زميلات وزملاء فقدوا حياتهم، وأساتذة قُتلوا، وجامعات سُوّيت بالأرض، مؤكدة أن الإصرار على إكمال المسار الأكاديمي هو شكل من أشكال الدفاع عن الحق في المعرفة، وعن المستقبل ذاته.
وقدّمت الطالبة سها أبو عيد شهادة بالغة التأثير، استحضرت فيها قصة صديقة طفولتها ريم الخطيب، الممرضة الفلسطينية التي تحوّلت سيرتها إلى مرآة للفقد الجماعي في غزة.
روت سها تفاصيل حياة ريم منذ طفولتها في أسرة بسيطة يعمل والدها في الصيد، مرورًا بتفوّقها الدراسي، وعملها ممرضة في أقسام الأطفال وحديثي الولادة، وصولًا إلى استشهادها وهي حامل في شهرها السابع، بعد أن رفضت مغادرة منزل عائلتها حفاظًا على والدتها المسنّة.
لم تكن الشهادة سردًا لمأساة فردية، بل توثيقًا لفقدٍ مركّب: فقد إنسانة، وفقد مهنية نادرة، وفقد أم، وطفلة لم تولد، ومستقبلٍ كان يمكن أن يكون. وأكدت سها أن ريم يجب أن تُذكر للطريقة التي عاشت بها، لا للطريقة التي قُتلت بها.

وتحدثت الطالبة أماني أبو منديل عن تجربتها كامرأة فلسطينية حاولت التمسك بالتعليم في وقتٍ كانت فيه الحياة نفسها مهددة في كل لحظة. قالت إن الحرب لم تسلبها الأمان فقط، بل حاولت سرقة المستقبل، حين أصبح التفكير في الدراسة ترفًا، والاستمرار فيها تحديًا يوميًا.
وأوضحت أن المرأة الفلسطينية في غزة تتحمّل عبئًا مضاعفًا، إذ تجد نفسها مسؤولة عن الأسرة في ظل القصف، والنزوح، وانعدام الموارد، بينما يُطلب منها في الوقت ذاته أن تبقى قوية وقادرة على الاستمرار. وأكدت أن الإصرار على التعلم لم يكن خيارًا شخصيًا، بل رسالة مقاومة جماعية في وجه محاولات محو الوجود الفلسطيني.
من جانبها، ركزت الطالبة دانا حمدان على الأثر النفسي العميق للحرب، مشيرة إلى أن الألم لا ينتهي بمغادرة غزة. قالت إن الذاكرة الفلسطينية تعبر الحدود، وإن صور الدمار، وأصوات الطائرات، وأسماء الشهداء، ترافق الطالبات حتى داخل قاعات الجامعات البريطانية.
وتحدثت عن شعور الذنب الذي يلاحق الناجين، وعن صعوبة التوفيق بين المتطلبات الأكاديمية والحزن المستمر على وطن يُدمَّر في الزمن الحقيقي. وأكدت أن نقل هذه الشهادات ليس طلب تعاطف، بل دعوة للاعتراف بالحقيقة كما عاشها أصحابها، بعيدًا عن التبرير أو التجزئة.
وقدّمت الطالبة عطاف أبو هدة شهادة تفصيلية مؤلمة، قالت فيها إنها تبلغ من العمر 26 عامًا، عامان منها تحت الإبادة، وأربعة وعشرون عامًا تحت عشرات الحروب ومئات التحديات.
روت عطاف أنها نزحت خمس مرات، إحداها كانت في خيمة استمرت ثمانية أشهر، نحو 250 يومًا من حياة قسرية بلا مقومات إنسانية. وأخذت الحضور في رحلة داخل يوم واحد من حياة امرأة غزّية: يوم يبدأ بالخوف من عدم مجيء الصباح، وبحرارة خيمة تتحول إلى جحيم، ومحاولة حماية الأطفال من الذباب، قبل أن تبدأ معركة تأمين الماء، والطعام، والخصوصية.
وصفت كيف تتحول المهام اليومية البسيطة إلى سباق بقاء، من انتظار شاحنة المياه، إلى حمل الغالونات الثقيلة، والطهو بوسائل بدائية، والوقوف في طوابير طويلة للاستحمام بمياه غير صالحة. كما تطرقت إلى المعاناة الخاصة بالنساء خلال فترات الحيض، في ظل غياب الفوط الصحية، والخصوصية، والراحة، مؤكدة أن المرأة الغزّية لا تُمنح رفاهية الانهيار، لأنها العمود الأخير الذي تتكئ عليه العائلة في زمن الإبادة.
تعقيب قانوني

وعقّبت على الشهادات المحامية والمستشارة القانونية دانيا أبو الحاج من المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين، مقدّمة قراءة قانونية أكدت فيها أن ما ورد في الشهادات يندرج ضمن انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وأن توثيق هذه الأصوات يشكّل عنصرًا أساسيًا في مسار المساءلة القانونية الدولية.
لم يخلُ اللقاء من الدموع، التي عبّرت عن عمق الوجع المتراكم في ذاكرة النساء الفلسطينيات، وعن الألم الذي خلّفته مشاهد القصف، والفقد، والتجويع، وانتهاك الكرامة الإنسانية. تحولت القاعة إلى مساحة إنسانية خالصة، تجاوزت اللغة والسياسة، لتؤكد مركزية الشهادة.
ختام الندوة

اختُتمت الندوة بتكريم رئيس منصة العرب في بريطانيا عدنان حميدان للطالبات المشاركات، والتقاط صورة تذكارية جسّدت معنى الصمود والاعتراف بالشهادة.
وترى منصة العرب في بريطانيا أن مثل هذه الندوات تمثّل فعلًا إنسانيًا وأخلاقيًا ضروريًا في مواجهة محاولات إسكات الرواية الفلسطينية داخل الفضاء العام البريطاني. إن الاستماع إلى شهادات نساء فلسطينيات من غزة، بعيدًا عن الضجيج السياسي والإعلامي، يعيد الاعتبار للبعد الإنساني للقضية الفلسطينية، ويؤكد أن دعم هذه الأصوات ليس موقفًا سياسيًا بقدر ما هو التزام بالقيم الأساسية للعدالة وحقوق الإنسان وحرية التعبير.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇
