المحاولة في المهجّر: السّعي بلا شغفٍ
في الغربة، تتبدّل الموازين. ليس كلّ ما حملناه من وطننا يأتي معنا، ولا كلّ ما أحببناه ينجو من التّفتّت على قارعة الرّحيل.
كثيرون يظنّون أنّ المهجّر يمنح فرصاً لا نهائيّة، وأنّ الباب الّذي يغلق في الوطن، يُفتح على مصراعيه في بلادٍ أخرى، لكنّ الحقيقة أكثر قسوةً: المهجّر لا يعطي بلا ثمن، بل يطالب بروحٍ قادرةٍ على احتمال الفراغ، على السّعي في الطّرقات الباردة بلا دفء شغف، وعلى الاستمرار في المحاولة حتّى حين تبدو المحاولة ضرباً من العبث.
ما أصعب أن يبدأ الإنسان يومه بلا رغبةٍ حقيقيّةٍ في شيء، ينهض لأنّه مضطرٌ، يسعى لأنّه لا خيار أمامه، يواصل السّير وهو يتمنّى أن يجد في الطّريق سبباً واحداً يبرّر كلّ هذا العناء.
في الوطن، ربّما يكون الشّغف دافعاً، وربّما تكون الأحلام الصّغيرة وقوداً للاستمرار، لكن في المهجّر يغيب الكثير من تلك الشّرارات.
ما يبقى هو الإرادة وحدها، الإرادة المجرّدة الّتي لا تستند إلى متعةٍ أو توقٍ، إنّما إلى معرفةٍ عميقةٍ بأنّ التّوقّف يعني السّقوط، وأنّ الجمود في الغربة يُشبه الموت البطيء.
الاستمرار بلا شغف قد يبدو للبعض حياةً ناقصةً، لكنّه في الحقيقة وجهٌ آخر من البطولة.
أن تنهض كلّ صباحٍ، وأنت تحمل قلباً مثقّلاً بالحنين، وأن تذهب إلى عملٍ لا تحبّه، أو تسعى خلف إجراءات لا تنتهي، أو تركض وراء لقمةٍ لا تُشبع روحك، هذا كلّه ليس أمراً هيّناً. إنّه شكلٌ من أشكال المقاومة.
مقاومة الانكسار، ومقاومة الفراغ، ومقاومة تلك النّداءات الخفيّة الّتي تهمس في داخلك: “ما جدوى كلّ هذا؟”
الغربة تعلّمنا أنّ الشّغف قد يخون، وأنّ الحلم قد يذوب، لكنّ المحاولة لا تزال قائمة.
أحياناً يكفي أن نضع قدماً أمام الأخرى. قد لا نعرف إلى أين نمضي، وقد لا نشعر أنّنا نحقّق شيئاً عظيماً، لكن مجرّد الحركة تكسر الجمود. المهجرّ، بكلّ بروده وجموده، يحتاج إلى قلوبٍ تتحرّك ولو ببطءٍ، يحتاج إلى من يؤمن أن السّير، ولو بلا شغفٍ، أفضل من الاستسلام لصمت الغرف المغلقة.
وهنا يبرز سؤالٌ فلسفيٌّ: هل الشّغف شرط للاستمرار؟ أم أنّ الاستمرار ذاته يولّد نوعاً جديداً من الشّغف، شغفاً خفيّاً لا نراه إلّا بعد أن نمضي شوطاً بعيداً؟ ربّما لا نحتاج دوماً إلى شعلةٍ كبيرةٍ تضيء الطّريق.
أحياناً تكفينا ومضةٌ صغيرةٌ، عادةٌ يوميّةٌ نكرّرها، أو هدفٌ بسيطٌ نعلّق عليه قلوبنا.
في المهجّر، حيث تضيع الأحلام الكبيرة وسط صخب الواقع، تصبح التّفاصيل الصّغيرة هي معاقل النّجاة: فنجان قهوةٍ في الصّباح، مكالمةٌ قصيرةٌ مع صديقٍ بعيدٍ، كلمةٌ طيّبةٌ نتبادلها مع جار، أو حتّى لحظة صمتٍ نشعر فيها أنّنا ما زلنا على قيد الحياة.
المحاولة في ظلّ انعدام الشّغف تذكّرنا أنّنا لسنا آلات، نحن بشرٌ، نصاب بالخيبة، نفقد الشّغف، نغرق في الملل، لكنّنا مع ذلك نملك شيئاً لا يقدّر بثمنٍ: القدرة على التّحمّل. لعلّ هذا ما يجعل من المهاجرين أكثر صلابة.
ليس لأنّهم وجدوا شغفاً جديداً، لكن لأنّهم تعلّموا أن يعيشوا بلا شغفٍ ظاهرٍ، وأن يصنعوا معنى في أرضٍ لم تُعطهم شيئاً من معاني الطّفولة والذاكرة.
المغترب الّذي يستمرّ في السّعي رغم فقدان الشّغف يشبه شجرةً اقتُلعت من تربتها، وزُرعت في أرضٍ غريبةٍ.
قد لا تزهر كما اعتادت، قد لا تثمر كما حلمت، لكنّها تواصل النّمو، تتشبّث بجذورها، وتتعلّم أن تستمدّ ماءها من ينابيع جديدة. وهذا وحده كافٍ ليجعلها حيّةً.
وفي نهاية المطاف، لعلّ الشّغف ليس الغاية العظمى كما نتوهّم، ربّما الحياة ليست سوى سلسلة من المحاولات، بعضها يولد من شغفٍ، وبعضها يولد من خوفٍ، وبعضها يولد من الفراغ ذاته، لكنّ القيمة الحقيقيّة تكمن في أنّنا نحاول، ونستمرّ، ونواجه الغربة بوجوهٍ متعبةٍ وقلوبٍ مثقّلةٍ، ثمّ نقول: “ما زلنا هنا.
اقرأ أيضًا:
- الصّحبة الصّالحة في المهجّر
- غرس العروبة في قلوب الصغار وحفظ الذاكرة الفلسطينية
- الضّمير الّذي ينام عن غزّة
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇
