الجارديان: هل نعيش فعلاً في العصر الذهبي للغباء رغم ثورة التكنولوجيا والمعرفة؟
في قلب مدينة كامبريدج الأمريكية، داخل مختبر الوسائط في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT Media Lab)، يبدو المستقبل أقرب مما نتصور. المكان يعجّ بابتكارات تجمع بين الغرابة والعبقرية؛ من روبوتات صغيرة إلى منحوتة سريالية صممها ذكاء اصطناعي طُلب منه ابتكار طقم شاي من أجزاء بشرية. وفي الردهة، يقف المساعد الآلي أوسكار يوجّه الزوار إلى السلة المناسبة للتخلص من أكواب القهوة.
لكن في الطابق الخامس، تعمل الباحثة ناتاليا كوسمينا على مشروع أكثر عمقًا: تطوير واجهات دماغ-حاسوب قابلة للارتداء تمكّن المصابين بأمراض عصبية مثل التصلب الجانبي الضموري من التواصل بعقولهم مباشرة.
تجربة مثيرة: كيف يؤثر ChatGPT على الدماغ؟

بدأت القصة حين تلقت كوسمينا رسائل غريبة من أشخاص قالوا إن استخدامهم لنماذج لغوية مثل ChatGPT جعل ذاكرتهم أضعف. دفعها الفضول إلى دراسة الظاهرة علميًا، فأجرت تجربة استخدمت فيها تخطيط كهربية الدماغ (EEG) لمراقبة نشاط الدماغ لدى أشخاص يكتبون مقالات بطرق مختلفة: يدويًا، بمساعدة البحث، أو باستخدام ChatGPT.
النتائج كانت لافتة: كلما زاد الاعتماد على المساعدة الرقمية، انخفض نشاط الشبكات العصبية المسؤولة عن التفكير والإبداع والانتباه. بل إن معظم من استخدموا ChatGPT لم يتذكروا ما كتبوه بعد دقائق.
تقول كوسمينا: “هذا مقلق، لأنك للتو كتبت النص ولا تتذكر منه شيئًا”.
بين الكفاءة والتبلّد: أدمغتنا تحب الاختصارات
ترى الباحثة أن المشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في طبيعتنا البشرية التي تبحث عن الحل الأسهل دومًا. فالأدمغة تحتاج إلى “احتكاك” وتحدٍّ لتتعلم، بينما تصمم التكنولوجيا الحديثة تجارب “خالية من الاحتكاك”.
هكذا أصبحنا نعتمد على هواتفنا لحساب الأرقام البسيطة، وتحديد الاتجاهات، وحتى تذكّر المواعيد.
ومع مرور الوقت، بات الواقع صعبًا مقارنة بعالم التطبيقات السلسة.
من سقراط إلى ChatGPT: هل التاريخ يعيد نفسه؟
حين حذّر سقراط من أن الكتابة ستضعف الذاكرة، ظن كثيرون أنه يبالغ. لكن الكتابة، ثم الطباعة، فالإعلام، فشبكة الإنترنت، لم تُضعف العقول بل وسّعت مدارك البشرية.
ومع ذلك، يبقى السؤال: إذا كانت التكنولوجيا تطورنا، فلماذا نشعر بأننا أغبى من أي وقت مضى؟
مؤشرات مقلقة: تراجع الذكاء عالمياً

تشير بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى تراجع نتائج اختبارات PISA منذ عام 2012. كما أن متوسط معدلات الذكاء (IQ) بدأ بالانخفاض في دول متقدمة عدة، بعد قرن من الارتفاع.
تربط كوسمينا هذا التراجع بالاعتماد المتزايد على التكنولوجيا، التي جعلتنا عاجزين عن التفكير أو التذكر أو العمل دونها.
وتعلق بسخرية: “فقط شركات البرمجيات وتجار المخدرات يطلقون على زبائنهم اسم مستخدمين”.
الإنترنت بين “تعفن الدماغ” و”الوجبات الفكرية السريعة”
اختارت جامعة أكسفورد مصطلح “تعفن الدماغ (Brain Rot)” ككلمة العام، تعبيرًا عن الخمول العقلي الناتج عن الإفراط في تصفح المحتوى الرديء.
فمعظم ما نستهلكه على الإنترنت صُمم لجذب انتباهنا لا لتطويرنا، كما أن أجزاء واسعة من الشبكة أصبحت “صحارى معلوماتية” بلا غذاء فكري صحي.
النتيجة: الإنترنت لا يجعلك غبيًا بالضرورة، لكنه يدربك على التصرف كغبي.
الذكاء الاصطناعي: من تفويض الذاكرة إلى تفويض التفكير
جاء الذكاء الاصطناعي التوليدي ليقدم عرضًا جذابًا: لم يعد عليك التفكير بنفسك. يمكنك أن تطلب من الآلة كتابة تقريرك أو تخطيط رحلتك.
لكن هذه الراحة المعرفية جعلتنا نستهلك معلومات جاهزة الهضم، تُقدم بشكل يُلغي العمليات الذهنية الضرورية مثل التحليل والمراجعة.
دراسات حديثة: تراجع التفكير النقدي

في دراسة شملت 666 مشاركًا، وجد الدكتور مايكل غيرليش، من كلية الأعمال السويسرية SBS، أن من يستخدمون الذكاء الاصطناعي بكثرة يسجلون درجات أقل في التفكير النقدي.
ويحذر من ما يُعرف بـ”تأثير الارتساء”؛ إذ يوجّهك أول رد من الذكاء الاصطناعي نحو طريق واحد ويقلل احتمالية التفكير الإبداعي.
يقول غيرليش: “الذكاء الاصطناعي قد يحسّن الشمعة لتصبح الأفضل، لكنه لن يخترع المصباح الكهربائي.”
التعليم في مأزق: من التفكير إلى النسخ واللصق
تشير دراسات بريطانية إلى أن 92% من طلاب الجامعات يستخدمون الذكاء الاصطناعي، و20% يعتمدون عليه في كتابة واجباتهم.
المعلمان الأمريكيان مات مايلز وجو كليمنت حذّرا في كتابهما Screen Schooled من أن التقنية المفرطة تجعل الطلاب أقل تركيزًا وأضعف معرفة.
يقول كليمنت: “معرفة الإجابة ليست معرفة حقيقية. المعرفة مهمة لتتعرف على الخطأ حين تسمعه.”
ويضيف أن الإنترنت المليء بالمعلومات المضللة سيزداد خطرًا مع توسع الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الزائف.
التعليم بعد الجائحة: تجربة غير مدروسة على الأطفال
تقول الباحثة فيث بونينغر إن المعلمين كانوا متحفظين على التكنولوجيا قبل الجائحة، لكن التعليم عن بُعد غيّر ذلك تمامًا.
وباتت أدوات مثل Google Workspace وKahoot! جزءًا من النظام التعليمي.
ومع أن شركات التقنية تزعم أن الذكاء الاصطناعي “ثورة تعليمية”، إلا أن الدراسات المستقلة تشير إلى تراجع الأداء الأكاديمي مع زيادة استخدام الشاشات.
يقول البروفيسور واين هولمز من جامعة لندن: “نحن نجري تجارب على الأطفال دون اختبار كافٍ، وكأننا نجرب دواءً جديدًا دون موافقة.”
وترى منصة العرب في بريطانيا (AUK) أن القلق المتزايد من آثار الذكاء الاصطناعي على القدرات الذهنية ليس ضربًا من المبالغة، بل دعوة لإعادة التوازن بين التقنية والعقل البشري.
فالتكنولوجيا، مهما بلغت من ذكاء، يجب أن تبقى أداة للإنسان لا بديلًا عنه.
المصدر: الغارديان
إقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇
