البيوت الّتي تسكننا بعد الخراب..
لا نغادر بيوتنا كما نظنّ، نحن نغادر الجدران والأبواب والنّوافذ، لكنّ البيوت الحقيقيّة لا ترحل معنا ولا تبقى خلفنا؛ إنّها تنتقل إلى داخلنا، وتستقرُّ في زوايا الرّوح حيث لا يصل الخراب بسهولةٍ. بعد الخراب، لا يعود البيت مكاناً نعود إليه، فقد يصبح أشبه بحالةٍ نستدعيها كلّما ضاق العالم من حولنا. يصبح ذاكرةً أكثر منه جغرافيّا، وصوتاً أكثر منه جدراناً، وحنيناً صامتاً لا يُرى لكنّه يُثقل القلب.
والبيوت الّتي سكنّاها يوماً لا تموت حين تُهدم، تموت حين تغيّر شكل حضورها. تعود إلينا في التّفاصيل الصّغيرة الّتي لا ننتبه لها عادةً: في رائحة قهوة تشبه صباحاتٍ قديمةً، في صوت بابٍ يُغلق في الذاكرة، في ضوءٍ خافت يمرّ فجأة عبر الرّوح بلا استئذان. نكتشف متأخّرين أنّ البيوت كانت أكثر من سقفٍ يحمينا من المطر، فهي امتدادٌ لأسمائنا، لضحكاتنا الأولى، لخوفنا الأوّل، ولأمانٍ لم نعرف قيمته إلّا حين فقدناه.
لكنّ السّؤال الأعمق الّذي يفرضه الخراب ليس: أين بيوتنا؟ بل: من نكون بعد أن نفقدها؟
فالبيت، في جوهره الفلسفيّ، ليس مكان الإقامة بقدر ما هو إطار المعنى الّذي تشكّلت داخله ذواتنا الأولى. هو المساحة الّتي تعلّمنا فيها اللّغة، وحدود الخوف، ومعنى الانتماء، وإيقاع الحياة اليوميّ. وعندما يُنتزع البيت، لا نفقد الجدران وحدها، فقد يتبعها فقدٌ لإحدى صيغ تعريفنا لأنفسنا، ونُجبر على إعادة طرح سؤال الهويّة من جديد.
بعد الخراب، نفهم أنّ الوطن شعورٌ متراكمٌ. هو تلك المسافة الخفيّة بين ما كنّاه وما صرنا إليه، بين بيتٍ فقدناه وإنسانٍ نحاول أن نعيد بناءه داخلنا. يصبح البيت صورةً معلّقةً في الذاكرة، لا يبهت لونها مهما طال الغياب، وكأنّ الرّوح ترفض أن تعترف بالخسارة كاملة، أو كأنّها تحاول تأجيل الفقد كي تستطيع الاستمرار.
لهذا يبدو الخراب امتحاناً للهويّة قبل أن يكون كارثةً عمرانيّة. إنّه اختبارٌ قاسٍ لقدرة الإنسان على إعادة بناء ذاته دون المرجعيّات المألوفة، ودون الذاكرة المكانيّة الّتي كانت تمنحه شعور الاستمراريّة. في هذا الفراغ الوجوديّ، إمّا أن ينهار المعنى، أو يُعاد تشكيله من جديد على أسس أعمق وأكثر وعياً. بعض النّاس ينجحون في تحويل البيت المفقود إلى قوّةٍ داخليّةٍ، إلى مرجعيّةٍ أخلاقيّةٍ، إلى بوصلةٍ صامتةٍ تعيدهم إلى أنفسهم كلّما تاهوا. وآخرون يبقون عالقين بين الأطلال، أسرى صورةٍ لم يعودوا قادرين على مغادرتها.
نحمل بيوتنا معنا في المنافي، في المدن الجديدة الّتي لا تشبهنا، وفي غرفٍ مستأجرة لا تحفظ أسماءنا ولا ذاكرتنا. نحاول أن نصنع ألفةً سريعةً مع جدران غريبة، وأن نعلّق صوراً أو نرتّب الأثاث بطريقة توحي بالاستقرار، لكنّنا نعرف في أعماقنا أنّ الألفة الحقيقيّة لا تُستعار. ومع ذلك، نتعلّم كيف نزرع بعض الطّمأنينة المؤقّتة، وكيف نروّض الغربة كي لا تبتلعنا بالكامل، وكيف نخلق معنىً صغيراً للحياة وسط كلّ هذا الفقد.
يقول الفلاسفة إنّ الإنسان كائنٌ يسكن المعنى قبل أن يسكن المكان. ومن هذا المنطلق، فإنّ البيوت الّتي تسكننا بعد الخراب ليست حنيناً ساذجاً أو ترفاً عاطفيّاً، هي محاولة واعية لحماية المعنى من التّلاشي. نحن لا نتذكّر بيوتنا لأنّنا عاجزون عن التقدّم، ربّما لأنّ الذاكرة تصبح شكلاً من أشكال المقاومة الوجوديّة، ووسيلةً لإثبات أنّنا كنّا هنا، وأن حياتنا لم تكن عابرةً أو بلا جذور.
الخراب لا يدمّر الحجر فقط؛ إنّه يختبر قدرتنا على التذكّر دون أن ننكسر، وعلى الحنين دون أن نتحوّل إلى أسرى له. يختبر قدرتنا على أن نحمل البيت كقيمة، لا كجرح مفتوح، وكمعيار أخلاقيّ لا يسمح لنا بأن نُشبه القسوة الّتي هدّمتنا. وهكذا، يتحوّل البيت من حجر إلى فكرة، ومن عنوان إلى مسؤوليّةٍ نحملها معنا في سلوكنا، وفي نظرتنا للعالم، وفي طريقة تعاملنا مع الآخر.
فالبيوت لا تُهدّم تماماً ما دمنا قادرين على تذكّرها بصدق. قد يأخذ الخراب المكان، وقد يسرق الجدران والطّرقات، لكنّه لا يستطيع أن ينتزع المعنى… إلا إذا سمحنا له بذلك.
اقرأ أيضًا:
- الإنسانية أولًا قبل كل الحسابات
- اليتيم… حين يتولّى الله قلبه لا يظلّ الظالم آمناً
- فنّ إعادة اختراع الذات: كيف نولد من جديد بعد الانكسار؟
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇

🌹🌹🌿