العرب في بريطانيا | وعد بلفور وتداعياته الكارثية على فلسطين والشرق ...

1447 جمادى الأولى 27 | 18 نوفمبر 2025

وعد بلفور وتداعياته الكارثية على فلسطين والشرق الأوسط

IMG-20251102-WA0011
سعيد الشيخ November 2, 2025

يُعدّ “وعد بلفور”، الذي صدر في الثاني من نوفمبر عام 1917، نقطة تحول مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وشرارة الصراع الذي لا يزال يلقي بظلاله الكثيفة على المنطقة حتى يومنا هذا. لم يكن الوعد مجرد رسالة دبلوماسية عابرة، بل كان بمثابة إعلان بريطاني يمنح حقًا لأمة (اليهود) في وطن لا تملكه (فلسطين)، متجاهلًا حقوق وتطلعات الأغلبية الساحقة من السكان الأصليين (الفلسطينيين). لقد كان هذا الوعد، الذي أطلقه وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر جيمس بلفور، إلى اللورد ليونيل وولتر روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية، هو الأساس الذي بُنيت عليه الكارثة الفلسطينية، أو ما يُعرف بـ “النكبة”.

صدر وعد بلفور في خضم الحرب العالمية الأولى، وكانت بريطانيا تسعى لتعزيز موقفها الدولي وكسب دعم الحركة الصهيونية، إلى جانب تأمين مصالحها الاستعمارية في المنطقة. نص الوعد على أن “حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جليًا أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا من الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.

يكمن التناقض الجوهري في هذا النص في تجاهله المتعمد للحقوق السياسية للشعب الفلسطيني. فبينما أشار الوعد إلى “الحقوق المدنية والدينية” للطوائف غير اليهودية، وهي الأغلبية الساحقة التي كانت تشكل أكثر من 90% من سكان فلسطين، فإنه أغفل ذكر حقوقهم القومية والسياسية. هذا الإغفال لم يكن عرضيًا، بل كان جزءًا من استراتيجية بريطانية تهدف إلى تهميش الوجود الفلسطيني الأصيل، وتقديم فلسطين كأرض خالية أو غير مأهولة، لتسهيل المشروع الصهيوني. لقد كان الوعد، بعبارة أخرى، بمثابة “وعد من لا يملك لمن لا يستحق”، وهو ما جعله غير قانوني وغير أخلاقي في نظر القانون الدولي ومبادئ العدالة.

التداعيات المباشرة على الفلسطينيين: من الوعد إلى الانتداب

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تم دمج وعد بلفور في صك الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1922، الذي أقرته عصبة الأمم. وبذلك، تحول الوعد من مجرد تعهد سياسي إلى التزام دولي، مما منح الحركة الصهيونية غطاءً قانونيًا لتنفيذ مخططاتها. وقد عملت سلطات الانتداب البريطاني بشكل منهجي على تطبيق بنود الوعد، مما أدى إلى نتائج كارثية على المجتمع الفلسطيني:

تسهيل الهجرة اليهودية المنظمة: فتحت بريطانيا أبواب فلسطين أمام موجات الهجرة اليهودية، التي تزايدت بشكل كبير، خاصة في ثلاثينيات القرن الماضي، مما أدى إلى تضخم أعداد المهاجرين وتغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد. وقد ترافق ذلك مع تدفق رؤوس الأموال التي سهلت شراء الأراضي.

الاستيلاء على الأراضي وتشريد الفلاحين: عملت سلطات الانتداب على سن قوانين وتشريعات سهلت نقل ملكية الأراضي من الفلسطينيين إلى المؤسسات الصهيونية، سواء عن طريق البيع من قبل الإقطاعيين الغائبين أو عن طريق مصادرة الأراضي العامة. هذا التوجه أدى إلى تشريد آلاف العائلات الفلسطينية من أراضيها، وتحويلهم إلى عمالة رخيصة أو لاجئين داخليينقمع المقاومة الفلسطينية: واجه الفلسطينيون، الذين أدركوا خطورة المخطط، هذا المشروع بمقاومة شعبية وثورات متتالية، أبرزها ثورة البراق عام 1929 والثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939). وقد قمعت القوات البريطانية هذه الثورات بوحشية مفرطة، مستخدمة سياسة العقاب الجماعي وهدم المنازل، مما أضعف البنية التحتية للمجتمع الفلسطينيي .

الكارثة الكبرى: النكبة وتأسيس الدولة

بلغت تداعيات وعد بلفور ذروتها في عام 1948، مع انتهاء الانتداب البريطاني وإعلان قيام دولة إسرائيل. هذه المرحلة، التي يُطلق عليها الفلسطينيون اسم “النكبة” (الكارثة)، لم تكن مجرد حرب، بل كانت عملية تطهير عرقي ممنهجة:

  • التهجير القسري الجماعي: طردت العصابات الصهيونية، بدعم ضمني من القوات البريطانية المنسحبة، ما يزيد عن 750 ألف فلسطيني من ديارهم وقراهم، ليتحولوا إلى لاجئين في الدول المجاورة وفي الضفة الغربية وقطاع غزة.
  • تدمير البنية التحتية الفلسطينية: دُمرت أكثر من 500 قرية ومدينة فلسطينية بالكامل أو تم تغيير أسمائها وطابعها، بهدف محو الوجود الفلسطيني المادي والتاريخي، وإقامة مستوطنات يهودية على أنقاضها.
  • تقسيم فلسطين التاريخية: سيطرت الدولة الجديدة على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، تاركة الضفة الغربية وقطاع غزة كبقايا من الوطن، وهو ما أدى إلى نشوء مشكلة الحدود والاحتلال المستمر.

التداعيات على الشرق الأوسط: صراع دائم وعدم استقرار

لم تقتصر تداعيات وعد بلفور على الفلسطينيين وحدهم، بل امتدت لتشمل المنطقة العربية بأسرها، لتشكل صراعًا جيوسياسيًا مزمنًا أثر على مسار التنمية والاستقرار الإقليمي:

  • الصراع العربي الإسرائيلي والحروب المتتالية: أدى تأسيس إسرائيل إلى سلسلة من الحروب المدمرة بين الدول العربية وإسرائيل (1948، 1956، 1967، 1973)، مما استنزف الموارد البشرية والاقتصادية للمنطقة وحولها إلى ساحة صراع عسكري دائم. وقد أدت حرب 1967 بشكل خاص إلى احتلال ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) بالإضافة إلى أراضٍ عربية أخرى (سيناء والجولان)، مما عمق الأزمة.
  • أزمة اللاجئين وتأثيرها الإقليمي: خلقت النكبة أكبر قضية لاجئين في العالم، حيث يعيش ملايين الفلسطينيين في الشتات، مما يشكل عبئًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا على الدول المضيفة (الأردن، لبنان، سوريا). وقد ساهم وجود اللاجئين في تأجيج الصراعات الداخلية في بعض هذه الدول، مثل الحرب الأهلية اللبنانية.
  • التدخلات الدولية وتأثيرها على الأمن الإقليمي: أصبح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بؤرة للتدخلات والصراعات الدولية، حيث استخدمته القوى الكبرى كساحة لتصفية حساباتها، مما زاد من حالة عدم الاستقرار. كما أثر الصراع على تشكيل التحالفات الإقليمية والدولية، وأصبح معيارًا لتقييم السياسات الخارجية للدول.
  • تأثيره على الأنظمة السياسية العربية: أثر الصراع بشكل عميق على تشكيل الأنظمة السياسية العربية. فقد أصبح “تحرير فلسطين” شعارًا مركزيًا للعديد من الحركات القومية والتحررية، وفي الوقت نفسه، أدى الفشل في تحقيق هذا الهدف إلى اهتزاز شرعية بعض الأنظمة، مما فتح الباب أمام صعود حركات معارضة ذات توجهات مختلفة. كما أن عملية السلام التي تلت ذلك، والتي بدأت باتفاقيات كامب ديفيد، أدت إلى انقسامات عميقة داخل الصف العربي.

بعد مرور أكثر من قرن على صدوره، لا يزال وعد بلفور يمثل الجرح الغائر في جسد الشرق الأوسط. لقد كان وعدًا استعماريًا بامتياز، أطلق شرارة صراع لا يزال مستمرًا، ونتجت عنه مأساة إنسانية مستمرة للشعب الفلسطيني، الذي لا يزال يناضل من أجل العودة والحرية وتقرير المصير. إن فهم وعد بلفور ليس مجرد استعراض لتاريخ قديم، بل هو مفتاح لفهم جذور الصراع الحالي، والخطوة الأولى نحو أي حل عادل ومستدام يضمن الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، ويؤسس لاستقرار حقيقي في منطقة الشرق الأوسط. إن العدالة التاريخية تقتضي الاعتراف بالخطأ الذي ارتكبته بريطانيا، والعمل على تصحيح آثاره الكارثية التي غيرت وجه المنطقة .

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

آخر فيديوهات القناة