المهاجرون يبنون بريطانيا… والسياسيون يزايدون عليهم
في لحظة سياسية يخيّم عليها الضباب وتضيق فيها الخيارات، يبدو المهاجر في بريطانيا وكأنه يواجه مصيرًا محتومًا بين نارين: نايجل فاراج، المتطرف المعلن، وسير كير ستارمر، الذي اختار مجاراة اليمين في خطابه وسياسته، وإن ارتدى قناع الاعتدال. فهل ما زال في المشهد السياسي البريطاني متسعٌ لصوت مختلف؟ وهل يستطيع من تبقّى من التيار التقدمي – كوربين ومن يشبهه – أن يشكل بوصلة نجاة في زمن المزايدات العنصرية؟
الهجرة في قلب المعركة السياسية
لطالما كانت الهجرة ملفًا حساسًا في السياسة البريطانية، لكنها اليوم باتت أداة دعائية رئيسية في صراع انتخابي يُراد له أن يُحسم على حساب الفئات الأكثر ضعفًا. ففي مقابل صعود التيارات الشعبوية بقيادة رموز كفاراج، الذي عاد مؤخرًا إلى الأضواء عبر حملة ضغط لتوحيد “اليمين الحقيقي”، يواصل حزب العمال بقيادة ستارمر الانزلاق نحو خطاب متشدد لا يختلف كثيرًا عن خصومه المحافظين.
ستارمر، الذي وصل إلى زعامة الحزب بوعد استعادة الثقة والتوازن، بات اليوم يغازل أصوات اليمين عبر تقديم تنازلات جوهرية في ملف الهجرة. ففي تصريح لافت في يناير 2024، قال: “سنوقف قوارب المهاجرين غير الشرعيين، وسنعيد من لا يحق له البقاء”، وهو تصريح لا يختلف في مضمونه عن خطاب سوناك أو وزيرة داخليته السابقة سويلا برافرمان، ناهيك عن أنه يتماهى مع خطاب “إعادة المهاجرين بالقوة” الذي يتبناه فاراج منذ عقدين.
عندما يتنافس الخصمان على جلد المهاجر
في الأسبوع الأول من مايو 2025، وبينما كانت الحكومة تدافع عن سياسات الترحيل إلى رواندا، صرّح فاراج بأن “بريطانيا فقدت السيطرة الكاملة على حدودها، ويجب استعادتها مهما كلف الأمر”. في ذات الأسبوع، لم يخرج تعليق ستارمر عن هذا الإطار، بل أشار إلى أن “الخطة الحالية لا تكفي، وسنكون أكثر صرامة في التعامل مع ملف القوارب الصغيرة عند استلامنا الحكم”.
الأدهى أن الفريق الإعلامي لحزب العمال بدأ بترويج حملات تتحدث عن “عدالة أكثر في نظام اللجوء”، وهو تعبير مُلطّف لسياسات تُفضّل تقليص أعداد القادمين وليس تحسين ظروفهم. في هذا السياق، يُصبح الخط الفاصل بين اليمين والوسط – أو ما يُفترض أنه يسار – باهتًا للغاية.
واقع المهاجرين: عصب البلاد المنسي
بعيدًا عن الشعارات، تكشف الأرقام حقائق دامغة: المهاجرون يشكّلون أكثر من 50% من العاملين في القطاع الصحي في لندن، وحوالي 35% في عموم البلاد، بحسب بيانات هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) لعام 2023. في قطاع النقل، يشكل سائقو الحافلات والقطارات من أصول مهاجرة نسبة كبيرة تتجاوز 30% في بعض المدن الكبرى. أما في قطاع الرعاية، فالاعتماد شبه كلي على عمالة مهاجرة.
هذه الأرقام لا تعني فقط أهمية اقتصادية، بل تكشف هشاشة أي خطاب يسعى لتقليص دور المهاجرين أو شيطنتهم. فالإضراب العام ليوم واحد في هذه القطاعات – لو حدث – كفيل بشل البلاد، من غرف العمليات إلى المحطات والمطارات.
هل يمكن إنقاذ السياسة البريطانية؟
في ظل هذا الانحدار نحو الشعبوية المموّهة، لا يبدو أن الأمل ممكن داخل المنظومات الحزبية القائمة. فحزب العمال – الذي كان يُمثّل يومًا صوت الطبقات العاملة والمهمّشين – بات شريكًا في خطاب الإقصاء. أما المحافظون، فقد قطعوا شوطًا بعيدًا في ترجمة هذا الخطاب إلى سياسات.
هنا يبرز السؤال الكبير: أين البديل؟ وأين الأصوات القادرة على إعادة تعريف السياسة باعتبارها شراكة لا صراعًا؟ لا يمكن تجاهل تجربة كوربين، رغم ما شابها من تحديات، فقد تمكّن الرجل من حشد قاعدة جماهيرية واسعة مؤمنة بعدالة اجتماعية حقيقية، وانفتاح على قضايا الجنوب العالمي، ورفض للحروب والاستعمار الجديد.
إن اللحظة الراهنة تتطلب جرأة سياسية؛ لا مجرد بيانات استنكار. وعلى أمثال كوربين – ومعه قوى المجتمع المدني والنقابات والجاليات المهاجرة – أن يفكروا بجدية في إطلاق مشروع سياسي بديل. لا بالضرورة حزب تقليدي، بل ربما تحالف شعبي يعيد تعريف أولويات العمل العام، ويرفض المساومة على حقوق الناس.
لُبّ المعركة
المعركة اليوم ليست بين يمين ويسار، بل بين من يرفض الظلم ويقاومه، ومن يبرره أو يصمت عنه. بين من يرى في المهاجر خطرًا، ومن يراه شريكًا في بناء المستقبل. وبين من يقف مع الإنسان، ومن يقايضه على أصوات انتخابية زائلة.
إن من يختار اليوم الحياد، يختار عمليًا الوقوف مع الأقوى. ومن يساوي بين الجلاد والضحية، لا يختلف كثيرًا عن الجلاد نفسه. لذلك، فإن واجبنا – كمواطنين وناشطين ومثقفين – أن نطالب بما هو أكثر من مجرد تغيير الوجوه. نريد تغييرًا حقيقيًا يعيد الكرامة إلى السياسة، والإنصاف إلى الخطاب، والإنسان إلى مركز القرار.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة