العرب في بريطانيا | الرفاهية المتوهَّمة عبودية بلا سلاسل حين يُقايَ...

1447 رجب 1 | 21 ديسمبر 2025

الرفاهية المتوهَّمة عبودية بلا سلاسل حين يُقايَض الصمت بالراحة

الرفاهية المتوهَّمة عبودية بلا سلاسل حين يُقايَض الصمت بالراحة
عدنان حميدان December 20, 2025

من السّهل أن نفهم أنّ الظّلم حين يظهر بوجهه القديم: سيّد يجلد، وعبد يُجلد، أي جلّاد واضح، وضحيّة واضحة. لكنّ التّاريخ، حين نقرأه بهدوءٍ وصدقٍ، يقدّم لنا صورةً أكثر إزعاجًا: كثير من أنظمة القهر لم تعش بالقوّة وحدها، بل بالاعتياد، وبقبول النّاس بها، وبإقناعهم أنّ هذا هو “الأفضل الممكن”.

العبوديّة لم تكن حادثةً أخلاقيّةً معزولةً، وإنّما كانت نظامًا اقتصاديًّا متكاملًا: سوق، وأرباح، وشبكات، ووسطاء، وقوانين غير مكتوبة. لم يُسق الإنسان بالسّلاسل فقط، إذ جُرِّد من معناه، وحُوِّل إلى سلعةٍ لها سعر. وحين يصبح للإنسان ثمن، يصبح السّؤال: كم يساوي؟ لا: هل له كرامة؟

الأخطر في هذا التّاريخ ليس وجود السّادة وحدهم، بل لحظة تطبيع الظلم. اللّحظة الّتي يصبح فيها القهر أمرًا معتادًا، وتتحوّل النّجاة الفرديّة إلى أولويّة، حتّى لو كانت داخل منظومةٍ تسلب من الإنسان إنسانيّته. هنا لا يعود القمع بحاجة إلى سوط دائم، لأنّ النّاس تتعلّم كيف تعيش داخله.

حين قَبِل العبد تاريخيًّا أن يشتري حرّيّته بالمال، لم يكن فاقدًا للكرامة ولا خاليًا من الإرادة. كان إنسانًا يبحث عن الخلاص. لكن المشكلة لم تكن في الفرد، كانت في المعادلة الّتي تأسّست:
الحريّة لم تعد حقًا، بل صفقة.
والكرامة لم تعد أصلًا، بل امتيازًا.

منذ تلك اللّحظة، لم يعد الظّالم بحاجةٍ إلى تبريرٍ أخلاقي. ما دام المال قادرًا على “حل المشكلة”، فلماذا التحرير؟ هكذا انتقلت الحريّة من كونها قيمة إنسانيّة إلى بند تفاوض، ومن فعل تحرّرٍ إلى معاملةٍ تجارية.

هذا المنطق هو ما تصفه نظريّات الإخضاع الحديثة بـ”الهيمنة الدّاخلية”: حين يتبنّى المقهور منطق القامع، ويعيد إنتاجه دون حاجةٍ إلى عنفٍ مباشر. حين يقتنع الإنسان أن عليه أن يثبت أهليّته ليُعامَل بكرامة، يكون الإذلال قد بلغ ذروته.

ولم ينتهِ هذا النّموذج مع نهاية العبوديّة الكلاسيكيّة، وإنّما عاد إلينا بثوبٍ أنيقٍ، بلا قيود ولا سياط. عاد إلينا باسم الرّفاهية.

في كثيرٍ من الدّول اليوم، يُقال للنّاس إنّهم أحرار؛ لأنّهم يعيشون مرتاحين: بيوت، استهلاك، سفر، ترفيه، واستقرار نسبي. لكن لهذه الحرية شرطًا غير مكتوب:

لا ترفع صوتك،
لا تطرح أسئلةً محرجةً،
لا تقترب من مناطق النّفوذ،
ولا تكسر الإجماع.

في المقابل، ستعيش “حياة جيدة”.

هذه ليست حرية. هذه صفقة صامتة.
راحة مقابل صمت، وأمان مقابل امتثال.

لا أحد يجلدك، لكنّك تعرف الحدود.
لا أحد يمنعك، لكنّك تخاف أن تخسر.
لا أحد يسجنك، لكنّ القلق من فقدان مستوى العيش يقوم بالمهمّة.

الأخطر أنّ كثيرين لا يكتفون بقبول هذه المعادلة، فهم يدافعون عنها، ويصفونها بالواقعيّة والعقلانيّة. تمامًا كما دافع بعض العبيد تاريخيًّا عن نظامٍ وفّر لهم حدًّا أدنى من الأمان مقابل الطّاعة.

وفي الجهة الأخرى من العالم، تُفرض المعادلة ذاتها لكن بوجهٍ أكثر فجاجة. شعوب تعيش تحت الاحتلال أو الهيمنة المباشرة، ويُطلب منها القبول بمنطق الصفقة نفسه:
هدنة مقابل لقمة،
صمت مقابل تسهيلات،
تنازل مقابل اعتراف ناقص أو سيادة مبتورة.

هنا تُسوَّق الواقعية كفضيلة، ويُوصَف من يرفضها بالتّهور أو التّطرف. لكن التّاريخ يقول شيئًا آخر: الحريّة الّتي تُمنَح بشروط المُهيمن ليست حريّة.. هي إدارة للأسر. والكرامة التي تُؤجَّل دائمًا باسم “المرحلة القادمة” لا تأتي أبدًا.

ما يجمع بين دولة الرفاهية المتوهَّمة، ودولة المعاناة دفاعًا عن الكرامة، ليس مستوى الدّخل ولا شكل النّظام، وإنّما موقف الإنسان من الإخضاع. في الأولى يُطلب منه أن يتخلّى عن صوته مقابل الرّاحة، وفي الثّانية يُطلب منه أن يتخلّى عن حقّه مقابل البقاء.

السّؤال الحقيقيّ ليس: كم سندفع؟
السّؤال الحقيقيّ: ما الّذي لا يجوز أن نساوم عليه أصلًا؟

الإخضاع لا يحتاج دائمًا إلى قيد ظاهر، بل إلى اقتناعٍ داخليٍّ بأنّ هذا هو “أقصى الممكن”. وحين يصل النّاس إلى هذه القناعة، يصبح الظّلم مستقّرًا، والاستبداد طويل النّفس، والاحتلال قابلًا للتكيّف.

الحرّيّة الّتي تُشترى يمكن أن تُسحب.
والكرامة الّتي تُمنَح يمكن أن تُهان.
أمّا الكرامة الّتي تُنتزع، فتبقى، حتّى وإن كان ثمنها باهظًا في الحاضر.

وحدهم الّذين يرفضون تحويل الكرامة إلى صفقةٍ، هم من يغيّرون مسار التّاريخ، ولو بعد حين.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

آخر فيديوهات القناة