الجمال في النقص: دروس من وابي-سابي

كم مرة احتفظتَ بشيء قديم رغم تقادم الزمان عليه؟
فنجان انشعر طرفه، أو ساعة توقف عقربها منذ زمن، أو وشاح فقد بريقه لكنه ما زال يسكن قلبك؟
تلك الأشياء لا تزال معنا، ليس لأنها باقية في وظيفتها، بل لأنها باقية فينا… تحمل ذكرى، دفء ماضٍ، أو محبة من شخص عزيز.
ذلك الشعور الذي يجعلك تُبقي على الأشياء رغم “نقصها”، وترى في الشقوق لمسة جمال لا عيبًا، هو ما يسميه اليابانيون: “وابي-سابي”.
وابي-سابي (Wabi-Sabi) ليس مجرد مصطلح، بل فلسفة يابانية عريقة ترى الجمال في البساطة، والهدوء، والنقص، والقدم.
هو فنّ تقبّل الأشياء كما هي: غير كاملة، غير دائمة، وغير مصقولة.
عندهم، الكمال ليس مطلبًا، بل تكلّف، والجمال الحقيقي يسكن الصدق والعمق والواقعية.
وحين نتأمل هذه الفلسفة، نجد صداها في قول الله تعالى:
“ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين…”
فالاختلاف قدرٌ، والتنوع رحمة، والكمال الحقيقي في تقبّل هذا كله بصدرٍ رحب.
ولكن… لماذا نظل نُطالب من حولنا بأن يكونوا كما نشتهي؟
نريد للأب أن يفهمنا دون أن نشرح، وللصديق أن يتصرّف كما نتوقّع، وللزوج أن “يُفصّل” على مقاس مزاجنا!
فإذا خالف أحدهم هذا التخيّل، تضجرنا… وربما ابتعدنا.
وفي زحمة ذلك، ننسى أن أجمل العلاقات ليست تلك التي بلا شوائب، بل التي نحتفي فيها بالصدق رغم الخلاف، وبالوفاء رغم التقصير، وبالوجود رغم عدم الكمال.
النبي محمد ﷺ كان يُقدّر هذا التنوع في طباع الناس، ويعامل كل شخص بحسب طبيعته. لم يطلب من الجميع أن يكونوا نسخة واحدة.
وفي سيرته نموذج تطبيقي لفهم “وابي-سابي” إنسانيًا: عمر القوي، أبو بكر الحليم، عثمان السخي، عليّ المفكّر… كل واحد منهم مختلف، وكل واحد كان ضرورة في مكانه، بجماله الخاص.
والحقيقة أن كثيرًا مما نراه اليوم فيمن حولنا “عيبًا” أو “نقصًا”، قد يصبح في لحظة ما الشيء الوحيد الذي نفتقده بشدة حين يغيب – لا قدّر الله.
فلنُبطئ قليلاً في حكمنا على الآخرين.
لنتعلّم من “وابي-سابي” كيف نحتفي بالناس كما هم، لا كما نريدهم.
ولنستلهم من روح الإسلام كيف نرى في كلّ شخصية نعمة، لا عبئًا.
الناس من حولنا ليسوا عبثًا في مسيرة حياتنا، بل هدايا أرسلها الله، وقد يكونون الأنسب لنا بطبيعتهم، وإن لم ندرك ذلك إلا بعد غيابهم.
اللهم احفظ من نحب، ولا تُرينا فيهم مكروهًا، وارزقنا حسن الفهم، وحسن التعامل، وحسن الشكر لوجودهم في حياتنا.
اقرأ أيضًا:
- ما أشبه الليلة بالبارحة… من الخلائف إلى الطوائف
- الدين الذي يُرى لا الذي يُقال
- من اليمن… قصة واقعية عن الحمير التي تقود البشر
الرابط المختصر هنا ⬇
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة