أنس الشريف.. حين يصبح الجسد غيابًا والصوت خلودًا
في غزة، يولد بعض الناس وهم يعرفون أن أسماءهم مكتوبة على جدران الريح، وأن قلوبهم ستظل تنبض حتى بعد أن تصمت. أنس الشريف كان واحدًا من هؤلاء. لم يكن مجرد مراسل يقف أمام الكاميرا، بل كان شاهدًا على جريمةٍ ممتدة منذ طفولته، ومرآةً لوجع وطنٍ لم يذق يومًا طعم السلام.
وُلد في مخيم جباليا، وشبّ على رائحة البارود، وحلم بالعودة إلى عسقلان، لكن الاحتلال رسم له طريقًا آخر… طريقًا مفروشًا بالدم والشظايا، نهايته خيمة صحفية قُصفت فوقه.
في رسالته الأخيرة، كتب أنس كمن يضع أمانة في أعناق الأحياء. أوصى بفلسطين، وبأطفالها الذين لم يسعفهم العمر ليحلموا، وبأهله الذين صبروا على الغياب. تحدث عن أمه التي كانت دعواتها حصنه، وعن زوجته التي بقيت على العهد رغم المسافات، وعن طفليه صلاح وشام اللذين حرمته الحرب من لحظة احتضانهما.
لم يكن الموت غريبًا عليه؛ فقد قصف الاحتلال بيته، وقتل والده وهو في صلاة العصر، واغتال زملاءه الصحفيين. ومع ذلك، ظل في غزة، يرد على التهديدات بابتسامة يكسوها الإيمان، ويُردّد: “أخرج من غزة إلى الجنة فقط”.
وكان رحيله مشهدًا من البطولة الجماعية؛ فقد استشهد أنس إلى جانب رفاقه الذين حملوا الكاميرات لا البنادق، محمد قريقع، والمصورون إبراهيم ظاهر، ومؤمن عليوة، ومحمد نوفل. كانوا جميعًا عيون غزة التي حاول الاحتلال إطفاءها، وأصواتها التي فضحت الجريمة للعالم. رحلوا معًا كمن يعقد آخر اجتماع للحق، ليوقعوا بدمائهم وثيقة الشرف الأخيرة: أن الصحافة في فلسطين ليست مهنة، بل مقاومة حتى الرمق الأخير.
كان أنس ورفاقه يعرفون أن الرصاصة تنتظرهم، لكنهم واجهوها بالكاميرا والصوت المرتجف من الجوع، يناشدون العالم أن يرى ما يحدث، فخذلهم العالم الذي رأى وسكت. لكن الاحتلال لم يدرك أن الصمت لن يبتلعهم؛ فقد رحلت الأجساد، وبقيت الأصوات تلاحقه في كل مكان، كما يطارده صدى صور الأطفال الممزقة التي نقلوها للعالم.
أنس ورفاقه.. ما زلتم بيننا
يا أنس، يا محمد، يا إبراهيم، يا مؤمن، يا محمد… أنتم لم ترحلوا. أنتم الآن في كل شريط إخباري، في كل تقرير صادق، في كل قلب لا يساوم على الحقيقة. وصاياكم صارت نشيدًا للأحرار، وكلماتكم صارت عهدًا علينا ألا ننسى، وألا نصمت، وألا نتعب حتى تشرق شمس الحرية على غزة.
“سلام عليكم يوم وُلدتم في أزقة فلسطين الجميلة، ويوم استشهدتم ثابتين على المبدأ في غزة العزة، ويوم يلتقي الأحرار على أرضٍ حرةٍ عادلة، كما حلمتم”.
اقرأ أيضًا:
- شكوى ضد “محامو بريطانيا من أجل إسرائيل” بتهمة استغلال القانون
- سلسلة “أشباح الحرب في العراق” تكشف حكايا ضحايا الاحتلال البريطاني
- اتهامات لبي بي سي بتبرير استهداف أنس الشريف وباقي الصحفيين في غزة
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇



